مقالات و رأي

رحلة الحروف من الإهمال إلى الإعجام

رحلة الحروف من الإهمال إلى الإعجام

بقلم / أحمد القاري

لم تكن العربية في بداياتها كما نكتبها اليوم، كانت الحروف تُسطَّر خالية من النقاط والحركات، تُشبه بعضها شكلاً، ولا يُفرّق بينها إلا السليقة العربية الصافية، والذائقة التي نشأت في بيئة فصيحة لا تعرف اللحن.. فكان القارئ العربي يفهم الكلمة من جرسها وسياقها، دون حاجة إلى إشارات إضافية تبيّن له الباء من التاء، ولا الفاء من القاف، ولا الجيم من الحاء في رسمها الأول، وبالرغم من ذلك حدث التصحيف والخطأ في النقل والرواية للتشابه الكبير بين الكلمات قبل إعجامها أي تنقيطها، مثل : “منه – فيه – مئة” حتى اضطروا إلى إضافة الألف في مئة لتكون مائة، للتفريق بينهن، وقد انتفت الحاجة إلى الألف بعد الإعجام، فعادت تكتب مئة كما كانت، وهذا ما ذهب إليه الدكتور محمد العدناني في معجم الأخطاء الشائعة.

ومع اتساع رقعة الإسلام، ودخول الأعاجم في العربية، بدأ اللحن يظهر، وبدأت الأخطاء تتسلل إلى قراءة القرآن الكريم، فغار العلماء على لغة الوحي، وخشي أهل العلم أن يتغير اللفظ أو يختل المعنى. وهنا ظهرت الحاجة إلى الإعجام؛ أي وضع النقاط على الحروف لتمييز المتشابه منها في الرسم.

لكن البداية لم تكن مباشرةً في تنقيط الحروف، فقد بدأ أبو الأسود الدؤلي بوضع الحركات، فجعل الفتحة نقطة حمراء فوق الحرف، والكسرة نقطة تحته، والضمة نقطة أمامه، ثم جاء نصر بن عاصم الليثي وهو تلميذ الدؤلي، فوضع النقاط على الحروف نفسها، فتميّزت الباء من التاء، والنون من الياء، والفاء من القاف، فصار النص العربي لوحة بيضاء واضحة بعد أن كان صورة لغزية تحتاج خبرة ومنشأ لغوي لفهمها.

ومن طرائف اللغة القديمة أن المؤلفين قبل اكتمال التنقيط كانوا يشرحون الحرف الواحد في الكلمة لضبط نطقها، فيقولون:
هاء مهملة أي لا نقطة فيها،
نون معجمة من أعلى أي منقوطة من فوق الحرف، ياء معجمة بنقطتين من أسفل.
باء موحّدة أي ذات نقطة واحدة.
وكانوا أحياناً يصفون الكلمة حرفاً حرفاً إن احتاج الأمر.

وقد كتب القدماء نصوصاً كاملة بلا نقط، مثل النص الذي نعرضه الآن بصورته غير المعجمة ثم المعجمة، ليتبين أثر النقطة في الإيضاح:

هذا النص بلا نقاط:
هل ٮعلم اں العرٮ ڡدٮما ڪاٮوا لا ٮسٮحدموں الٮڡاط، واٮٮ ڪدلك ٮمڪٮك اں ٮڡرا مڡاطع ڪامله ٮدوں ٮڡاط، ڪما ڪاں ٮڡعل العرٮ الڡدامى، وڪاٮوا ٮڡهموں الڪلماٮ مں سٮاٯ الحمله، واٮسط مٮال علىٰ دلك اٮك ٮڡرا هدا الڪلام ٮدوں ٮڡاط

النص بعد الإعجام:
هل تعلم أن العرب قديماً كانوا لا يستخدمون النِّقاط، وأنت كذلك يمكنك أن تُقرأ مقاطع كاملة دون نِقاط، كما كان يفعل العرب القدامى، وكانوا يفهمون الكلمات من سياق الجملة، وأبسط مثال على ذلك أنك تقرأ هذا الكلام بدون نقاط.
فالنقطة الصغيرة التي نضعها اليوم باعتياد ليست شكلاً عادياً فقط، بل إنها نقطة البداية للدلالة على الحياة والمعنى، والإعجام جعل اللغةَ أقرب إلى الفهم، وأوسع انتشاراً، وحفظ لسان القرآن كما نزل ببيانه وإعجازه.

إن انتقال العربية من النص المجرد إلى النص المنقوط، كان قراراً حضارياً حفظ لغة الوحي، وصان نبرة المعنى، وثبّت الهوية اللسانية للأمة، ولم يكن تطويراً شكلياً فحسب، مما لا يدع مجالاً للتصحيف والتحريف والتلاعب بالنصوص وما يترتب على ذلك من تغير الأحكام الشرعية وضياع الحقوق.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى