[فضفضة قلب ناضج]

عبهر نادي
في آخر المساء، حين تلين حدّة النهار ويهدأ ضجيج المدن، تخفّ الأصوات وتنحسر الأضواء، لتبدأ أرواحُنا بالبحث عمّن يحتضن تعبها بطريقته الخاصة.
فكلما هدأت ضوضاء العالم ارتفع داخلنا صوتٌ صغير لا يسمعه إلا من أرهقه يومه الطويل، ليذكّره بأن القلب ـ مهما اشتد ـ يحتاج إلى حضنٍ آمن يضمّ تعبه، وإلى مساحات تُفهَم فيها الروح قبل أن تُفسَّر الكلمات.
إنها فضفضة وليست ثرثرة ، إنها احتياج إنساني لا يطلب كثيرًا من الكلام بقدر ما يحتاج إلى الفهم.
يمضي العمر ونكبر، نعم… لكن هذا الكِبَر لا يلغي رغبتنا في البوح، بل يغيّر شكلها. فالناضج لا يفتش عمّن يوافقه، بل عمّن يشاركه رؤية الزوايا التي تغيب عن عينيه، عمّن يلتقط الأعباء قبل أن تُقال، ويفهم الحكاية دون أن يحتاج إلى سماع تفاصيلها. لذلك يبحث عن أولئك الذين يعرفون كيف يرون القلب لا الكلمات، عن الذين يمنحون دفئًا لا يُشترى، وحضورًا لا يُطالب به، وطمأنينةً تشبه يدًا خفيفة تُربّت على الروح بلا ضجيج.
ولأجل هؤلاء… يكتب كثيرون لا ليفضفضوا وحدهم، بل ليتشاركوا الهمّ والفكرة، وليبحثوا عمّا يُخفف عنهم طول الطريق؛ لمن يليق به ذلك ،لمن نبحث في حضوره عن ذراعين نُلقي فيهما حزن الأغنية ورائحة الذاكرة وحيرة الطريق. أولئك الأشخاص الذين يمرّون في حياتنا كأنهم مفاتيح صغيرة تفتح فينا غرفًا لم نكن نعلم وجودها… غرفٌ لا تُفتح إلا لمن يفهم صاحب القصة، لا القصة نفسها.
لقد تغيرمعنى الفضفضة داخلنا. نصمت كثيرًا لأن الكلام لم يعد يقال للجميع، ونبحث عن صدقٍ لا يجرح، وعن عقلٍ يسمع، وعن قلبٍ يخاطب الجزء العميق الذي لا يظهر إلا نادرًا.
وأن يفتح الإنسان قلبه لشخصٍ ما يعني أنه منحه مفتاح عزلته، وأذن له بأن يقيم في منطقة لا يصل إليها أحدٌ سواه… ذلك المفتاح لا يستحقه إلا من أثبت أن حضوره يضيء المكان، لا يعتم ما تبقّى فينا من نور.
وحين ينضج القلب، لا يريد فضفضة تملأ الهواء، بل فضفضة تشبه استراحة الروح على كتف صديقٍ حقيقي يسمع دون ضجيج، ويقول:
“أنا هنا لا لأسمع كلماتك، بل لأفهم قلبك.”
تلك هي فضفضة القلب الناضج:
حديثٌ قليلٌ في كلماته… كثيرٌ في أثره؛
حديثٌ ينطفئ به الوجع، وتُفتح به نافذةٌ جديدةٌ على الحياة…
فالقلب لا يطمئن بالكلام، بل بمن يفهمه دون أن ينطق .



