مقالات و رأي

الشتاء واشتعال المشاعر

الشتاء واشتعال المشاعر

بقلم / أحمد القارى

يُعَدّ الشتاء عند أكثر الشعوب الفصلَ الأكثر قرباً للمشاعر، لأن النفس تميل فيه إلى السكينة، ويهدأ ضجيج الحياة من حولنا، وكأن الكون يمنح الإنسان فرصةً لاستعادة توازنه، ولملمة ما تناثر منه طوال العام، فهو فصل يزورنا ليستقر فينا.
يقول علماء النفس إن انخفاض درجات الحرارة وإيقاع الشتاء الهادئ يدفع الإنسان إلى التأمل أكثر، ويزيد من الشعور بالأمان العاطفي خاصة والليل في امتداده يغلب النهار .. فالمطر في الشتاء له تأثيره الخاص في غسل التوتر، وصوت الرياح يوقظ في القلب رغبة في الاحتضان والاقتراب من الأحبة.

الناس ينتظرون الشتاء وكأنه ضيفٌ كريم يجلب معهو ذكريات الطفولة حول المدافئ، وروائح المطر الأولى، وجلسات المساء الطويلة، ودفء البيوت، ولمة العائلة.
قال ابن سكّرة:

جاء الشتاء وعندي من حوائجه
سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا

كن وكيس وكانون وكاس طلا
بعد الكباب وكف ناعم وكسا

ولذلك ترى الكثيرين يعدّون العدّة له منذ بدايته، يجهزون ملابسهم، عطورهم، وأركانهم الخاصة في المنزل.. فالشتاء برمته طقوسٌ حين يدق ناقوس البرد.
يتميّز الشتاء بكونه أكثر الفصول ثراءً بالعادات الدافئة:
● جلسات القهوة والشاي:
يعود البخار المتصاعد من الفناجين ليكون جزءاً من المتعة اليومية، كأن الدفء يخرج من الكوب ليصل إلى الوجدان.

● القراءة والكتابة:
الشتاء يُعطي للأقلام صوتاً أوضح؛ فالكاتب يجد في نزول المطر إيقاعاً يرافقه، والقرّاء يستمتعون بالهدوء لفتح كتاب أو قراءة رواية.

● الطبخ الشتوي:
من الشوربات الدافئة إلى الأكلات الشعبية التي لا تكتمل إلا في برد الشتاء، يصبح الطعام جزءاً من ذاكرة الموسم.

● الرحلات الشتوية:
رحلات البر، إشعال النار، والشواء.. كلها ممارسات يحبها الناس لارتباطها بجوّ من الألفة والبساطة.

ترى كيف يصنع الإنسان لحظاتٍ سعيدةً في الشتاء؟
الشتاء لا يمنح سعادتَه لمن ينتظرها، بل لمن يصنعها، ومن أجمل ما يمكن فعله:
– ترتيب ركن دافئ في المنزل للقراءة أو الاسترخاء.
– ممارسة المشي في الأجواء الباردة لتنشيط الدورة الدموية.
– إشعال شموع بروائح شتوية تبعث على الطمأنينة.
– قضاء وقت أكبر مع العائلة أو شريك الحياة.
– الاستمتاع بالمطر بدلاً من الهروب منه.

أما العطور الشتوية فلها نصيب وافر في هذا الفصل، وتختلف عن عطور الصيف، فهي أكثر عمقاً وثباتاً، ومن أجمل نغماتها العود والعنبر والفانيليا الدافئة والجلود والمسك الثقيل والخشبيات (الساندل، الأرز) والتوابل الشرقية (القرفة، الهيل، جوزة الطيب).. هذه الروائح تتفاعل مع برودة الجو وتمنح حضوراً أخاذاً للرجل والمرأة على حد سواء.

وأما عن الأزياء المناسبة للشتاء فهناك تركيبات تتلاءم مع كل دولة ومنطقة ومدينة، فأزياء الرجال تدل على جنسه، وأزياء النساء كذلك.. فللرجال: المعاطف الصوفية الثقيلة، الجواكيت الجلدية، الشال الصوفي (يُضفي أناقة خاصة)، البلوفرات الراقية بألوان داكنة: كحلي، رمادي، أسود، خمري – حسب لون البشرة -، والأحذية الشتوية الجلدية.
وما يتناسب مع النساء: المعاطف الطويلة، والشالات الصوفية، والفساتين الشتوية الدافئة، والقبعات الأنيقة، والبوت الشتوي بأشكاله المختلفة.
فهذا الشتاء فصل أناقة، إذ تمنح طبقاته تنوعاً في الذوق والمظهر.

قد يرد سؤال.. هل الشتاء يزيد الحب ويقرب العلاقات؟
نعم بالطبع.. فالشتاء موسم المشاعر الهادئة. البرد يدفع الناس للاقتراب، والمطر يوقظ الحنين، والليالي الطويلة تتيح وقتاً أطول للحديث، للمصالحة، وللجلوس القريب دون ضجيج.. يقول علماء النفس إن الأجواء الباردة تحفّز هرمونات الهدوء مثل السيروتونين، فيميل الإنسان إلى إظهار عاطفته بوضوح، والشعور بالاحتياج العاطفي، وتقدير وجود الشريك أكثر من أي فصل آخر.
ولهذا تتوطد العلاقات في الشتاء، ويعود الدفء بين القلوب بعد صيف مليء بالضغوط والإرهاق والحرارة العالية.
الشتاء رسالة موسمية تقول لنا: بعد الجفاف يأتي المطر، وعقب القيظ يزورنا النسيم، وبعد الإرهاق تأتي الراحة.
الشتاء يعيد ترتيب تقويم الفصول.. يمنح النفس الحية فرصة للصفاء، وللنظر إلى الحياة من نافذة أخرى أكثر عمقاً وامتناناً، ولأجله غنى سلطان المرشد:

هذا الشتا وهذا أنا
باين علينا هالحنين

باقي مثل محنا هنا
نرجي متى غيمك يحين

عطر سكن بكفوفنا
كل ما برد زاد الأنين

فيني وَله لأيامنا
عندي أمل بكرة تجين

ويبقى الشتاء الفصل الأجمل الذي يوقظ فينا ما خدرته الأيام، ويجعل من اللحظات الصغيرة ذكريات لا تُنسى، وختاماً.. أقول إن الشتاء لا أجده فصلاً من فصول السنة، بل هو فصل من فصول الحياة.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى