مقالات و رأي

أزهد الناس في الشاعر أهله

أزهد الناس في الشاعر أهله

بقلم / أحمد القاري

حضرت البارحة أمسية شعرية ماتعة لشاعر متمكن من زمام اللغة، ممسكٍ بلجام البلاغة، ولم يسرني عدد الجمهور أبداً.. في زمنٍ أصبحت فيه المدرّجات تعجّ بالهتافات، والشاشات تزدحم بالمباريات، نجد أن المنابر التي كانت يوماً تضجّ بالشعراء والأدباء باتت شبه خالية، إلا من قلةٍ مؤمنةٍ بالكلمة، عاشقةٍ للبيان، تحفظ للشعر مكانته في وجدان الأمة.

ظاهرة العزوف عن الشعر والأدب – خاصة بين الشباب والجيل الصاعد – لم تعد أمراً عابراً، بل صارت واقعاً مؤلماً يتسع مداه يوماً بعد يوم.
ففي الوقت الذي تُدفَع فيه الأموال الطائلة للاشتراكات الرياضية والقنوات الناقلة، نرى أمسياتٍ شعريةً تُقام فلا يحضرها إلا قِلّة متواضعة من الأوفياء، أغلبهم من أقارب الشاعر أو أصدقائه أو محبّي الأدب القدامى.
أين أولئك الذين كانت قصيدة واحدة تُلهب مشاعرهم، وتُثير فيهم الغيرة على لغتهم وتراثهم؟
أين ذاك الشغف الذي كان يجعل الشاب يحفظ القصائد عن ظهر قلب، ويجادل في المعاني والمفردات كما يجادل اليوم في نتائج المباريات؟

لقد تغيّر الذوق العام حين تغيّرت وسائل التلقّي، وصار الإنسان أسير “الومضة” و”الفلاش”، ينتقل بين مقطعٍ وآخر في أجزاء من الثانية، حتى فقد القدرة على الصبر والإنصات والتأمل.
هذه العجلة الذهنية جعلت العقول تأنف من الجلوس الطويل في أمسية شعرية أو محاضرة أدبية أو حلقة علمية، لأن النفس لم تَعُد تحتمل الهدوء ولا تتذوق الصبر على الكلمة الراقية.

والمؤسف أن هذا الانصراف لا يعني العزوف عن الجمال، بل تحوّله إلى جمالٍ سطحيٍّ سريع الزوال، لا يترك أثراً في القلب ولا بصمة في الفكر.

لماذا ينظر بعض المقلين في الثقافة إلى الشعر والأدب على أنهما ترف فكري، والحقيقة أنهما غذاء الروح ومرآة الأمة، بهما تُصقل الأذواق، وتُربّى النفوس على الرقي والذوق والهوية.

إن الحزن يملأ قلبَ الشاعر حين يُوجّه دعوةً لأمسيةٍ أو ملتقى، فلا يجد من الحضور إلا فئةً محدودة، بينما تمتلئ المقاهي والملاعب والهواتف بالمتابعين لكل ما هو عابر. تلك المفارقة تُخبرنا عن أزمة ذوقٍ قبل أن تكون أزمة وقت.

وأوجه من هنا توصية للجيل الواعد لعلها تُقرأ ..
يا شباب الغد، ويا حملة الفكر والأمل، اجعلوا للمعرفة نصيباً من أوقاتكم، وللأدب مكاناً في قلوبكم.. احضروا الأمسيات الشعرية، والندوات الثقافية، واستمعوا إلى من يُغذّي عقولكم قبل أن يُسلّي أبصاركم.
فالعقل الذي يتربّى على الأدب لا يتشتت أمام ضجيج الحياة، والروح التي تتذوق الشعر لا تفقد توازنها في زمن السرعة.
إن حضوركم لتلك اللقاءات دعم للشعراء، وشهادة انتماءٍ لجمال العربية، ووفاءٌ للهوية، وحفاظٌ على ذائقةٍ كادت تذبل في زمن “التمريرات السريعة”.
عودوا إلى الشعر؛ ففيه حياة، وفيه الجذور، وفيه ما يُعيد الإنسان إلى ذاته قبل أن تبتلعه الشاشات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى