الغرام بين الآلام والوئام

الغرام بين الآلام والوئام
بقلم / أحمد القاري
الغرام بين الآلام والوئام
ليست العلاقة التي تُبنى على الفراق والرجوع علاقةً عادية، ولا يمكن اختصارها في كلمة “تقلّب” أو “تردد”. هي أعمق من ذلك بكثير؛ إنها حكاية مُركّبة بين قلبين يعرفان بعضهما أكثر مما ينبغي، لكنهما لم يعرفا كيف يعيشان بسلام.
يقول جبران:
“قد لا يكون الحب هو ما يجعلكما سعيدين دائماً، لكنه ما يجعلكما صادقين دائماً” .
في هذا النوع من العلاقات، لا يكون الفراق قراراً نهائياً، بل محاولة يائسة للاستراحة من الوجع.. كل مرة يقولان: “هذه آخر مرة” ، لا لأن المشاعر انتهت، بل لأن الألم صار أثقل من الاحتمال.
غير أن الحنين غالباً ما ينتصر، فالحنين لا يعرف المنطق، ولا يعترف بالكبرياء، ولا يحترم مواعيد النسيان.
يتراجعان فيرجعان، لأن كل شيء فيهما ومن حولهما يذكرهما ببعض، والقلبُ إذا أحبّ، لا يعقل، والنسيان لا يقتل الحب، لكنه يعلّمه كيف يتألم بصمت.
مهما انتقلا إلى محطات حب أخرى لا يمكنهما التخلي عن أول حب، فالذاكرة لا تعرف البدائل، والقلب لا يعترف بالبدلاء.
يهمس أحد العشّاق قائلاً:
نعود لأننا لم نغادر من القلب أصلاً.
وما أصدق قول الشاعر :
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزل في الأرض يعشقه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
هي علاقة يتساوى فيها الحب والوجع، ويتعادل فيها الصمت والكلام. كثير من الأشياء لا تُقال .. لأنها أعمق من أن تُقال .. يختصرها غسّان كنفاني فيقول: “بعض الصمت أصدق من ألف كلمة”.
يتبعهم العناد كظلّ، ويقوّيهم الشوق كوقود، يعيشون دائماً على أمل أن تكون المرة القادمة أهدأ، أنضج، أقلّ كسراً، لكنهم، بصدقٍ موجع، يعودون إلى نفس الدائرة.. نفس البداية، نفس النهاية المؤقتة.
ورغم كل هذا، لا يستطيع أحدهما كره الآخر، لأن العلاقة التي تبدأ من صدق حين تنكسر تبقى فيها روح لا تموت، قد تتشقق، قد تبهت، لكنها لا تُمحى، فهناك فرق بين علاقة فشلت، وعلاقة تعبت.
هي قصة قلبين تعبا من الفراق، ولم يستطيعا العيش معاً على وفاق، يتأرجحان دائماً بين جملتين: (أحتاجك) (وأحاول أن أنساك) ! حبّ لم يُترك له أن يكبر، وحنين لم يقدرا على دفنه، لذلك هذا النوع من العلاقات لا يُنسى، لأنه ينحفر في الذاكرة مثل الجرح؛ كلما ظننت أنه التأم، عاد ينزف من جديد، والمحزن في العلاقات التي تُبنى على الرجوع بعد الفقد، أنها لا تُشفى تماماً، ورغم الوجع، تبقى هذه العلاقات أصدق من كثير من قصص الحب الهادئة، لأنها لم تُبنَ على السهولة، ولا على الاكتفاء السريع، بل على تجربة الفقد وطعم الرجوع.
كثيرون أحبّوا، لكن قلة فقط فقدوا ثم عادوا، وعرفوا كيف يتبدّل القلب بعد الغياب.
هذه ليست علاقة مثالية، ولا يُنصح بها لكل قلب، لكنها حقيقية، وحين تكون العلاقات حقيقية، تكون مؤلمة، صادقة، ولا تُنسى.. كما قال محمود درويش:
“نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً، ونحب من الحب ما أتعب”.



