مقالات و رأي

الإبل بين الميكروسكوب والآية: حكاية علم وإيمان

البروفيسور فيصل عبدالقادر بغدادي..
أستاذ جامعي سابق- مستشار التخطيط الإستراتيجي والقيادة.
عندما ابتعثت لدراسة الماجستير في جامعة مانشستر، في تخصص بيولوجي يتناول الأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان حينها لم يكن في ذهني سوى سؤال علمي بحت وهو : أي الكائنات أصلح لدراسة الطفيليات وتأثيرها الصحي؟

وفي الواقع هناك كائنات حية عديدة تصلح للدراسة والبحث في هذا الجانب العلمي ولكن الصدفة قادتني إلى الكائنات العجيبة والمعجزة التي خلقها الله عزوجل وأكرمنا بها في المملكة العربية السعودية وهي الإبل وأخترت عمل الدراسة عن الجمل العربي والأمراض الطفيلية التي ممكن أن تصيبه ، وتصيب كذلك الإنسان مشتركة بينهم..

في المختبر وخاصة في وحدة الإليكترون ميكروسكوب لا مكان للعشوائية بل كل شيء يقاس ويحلل على مستوى الخلية داخلياً وسبحان الله الإبل أن لم تكن مجرد عينة بحثية فمع كل قراءة علمية، كانت تكشف عن نظام بيولوجي بالغ الدقة، خلقه الله عزوجل ليتحدى أقسى البيئات على وجه الأرض…وعموماً أنا هنا في هذا المقال لست بصدد الحديث عن البحث العلمي ولكن أحببت أن أكتب عن سفينة الصحراء الجمل هذا الكائن الإعجاز الإلهي الذي أشتهر بأنه يصبر العطش حيث كانوا يقولون بأنه “يخزن الماء في سنامه” وهذا ليس صحيحاً علمياً إذ أن الجمل لا يخزن الماء في سنامه كما يعتقد كثيرون بل أثبت العلم الحديث أن هذه المعلومة غير صحيحة فالسنام في الحقيقة مخزن للدهون وليس للماء، وهي دهون يستخدمها الجمل كمصدر للطاقة عند ندرة الغذاء وعندما تتحلل هذه الدهون داخل الجسم بفعل عمليات الأيض الداخلي تنتج طاقة ومقداراً جيداً من الماء الأيضي الذي يساعد الجمل على البقاء، دون أن يكون هناك ماء مخزن فعلياً..
أما سر تحمل الجمل للعطش فيعود إلى نظام فسيولوجي بالغ الدقة؛ إذ يمتلك كلية عالية الكفاءة تقلل فقدان السوائل كما أن للجمل قدرة على تنظيم حرارة جسمه لتقليل التعرق وفقدان السوائل بالإضافة إلى إمتلاكه خصائص دموية تمكنه من شرب كميات كبيرة من الماء دفعة واحدة عند توفره طبعاً.
وهكذا يتبين أن إعجاز الجمل لا يكمن في تخزين الماء، بل في قدرة جسمه وتكوينه في إدارته للماء بذكاء إعجاز إلهي حيوي فريد يجعله بحق سفينة الصحراء
ويدير موارده الحيوية بذكاء مذهل للغاية كما أن دمه يحتوي كريات دم حمراء بيضاوية فريدة تجعله تتحمل الجفاف وتسمح له بشرب كميات كبيرة دفعة واحدة تسمح له بتحمل الجفاف..
واليوم تتسارع الأبحاث العلمية عن جهازه المناعي الذي صار محور إهتمام عالمي في أبحاث علاج السرطان والأمراض المناعية.
وصحيح أن الجمل كائن قوي جداً ولكن هل فعلاً سر بقائه يعود للقوة وحدها فقط أم أن السر يكمن أيضاً في قدرته على التكيف مع كل الظروف البيئية والمناخية القاسية والصارمة للصحراء..ومن خلال هذا التامل الجميل عادت إلى ذهني آية قرآنية طالما سمعناها دون أن نتوقف عند معناها وعمقها الإعجازي حيث يقول الله رب العزة والجلالة وهو أعز من قائل
﴿أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلِقت﴾.
هذه الآية العظيمة ربما هي دعوة للتأمل والمبادرة للدراسات والأبحاث وكأن الأية سؤالاً علمياً مفتوحاً: كيف خُلقت؟؟

في كل تجربة مخبرية، كان هذا السؤال يزداد حضوراً. فالإبل ليست مجرد “سفينة صحراء”

لقد تعلمت من الإبل أن الإعجاز الإلهي هو علم حقيقي يقرب الإنسان ولا يبعده عن الإيمان بل يقوده إليه من طريق أكثر عمقاً وصدقاً.

تعلمت بأن القوة تكمن في الصبر والجلد مع التكيف مع الظروف والأحوال كما يحصل مع بدوي الصحراء الذي يتعامل مع إِبله يصبر وجلد وتكيف مع الظروف والمناخية ، لأن هذه مميزات تتميز بها مجتمعات الصحراء التي تعايشت مع الإبل بالرغم من قسوة الصحراء إلا أنها تتميز بصفات إنسانية عميقة صقلتها البيئة قبل الزمن ، فالإبل عندهم ليست وسيلة عيش فحسب بل كائن حاضر في الذاكرة والوجدان وجزء أصيل من العائلة والموروث لأن كبارنا كانوا يقولون أن من رافق الإبل تعلم الصبر وطول النفس فهي مدرسة في التحمل والثبات أمام القسوة .

كما غرست في نفوسهم الرحمة والرفق إذ يدركون أن العناية بها حياة مشتركة لا تقوم إلا باللين لذلك يتجلى الوفاء في علاقتهم بالإبل كما في علاقاتهم الإنسانية إرتباط ووفاء للأرض وللعشرة وللعهد ، كما يكسبهم إتساع مساحة الصحراء المترامية بكثبانها الرملية تواضعاً وحكمة فلا مكان للتعالي والتكبر أمام عظمة الخالق سبحانه وتعالى. .

لذلك فإنهم يمتلكون حسّاً عالياً بالمسؤولية والإنتماء، ويحملون تراثهم بكل فخر وإعتزاز جيلاً بعد جيل.. الإبل عندنا هنا ليست حيوانات تُربى بل قيمة تورث، وهوية تُحفظ، وأخلاق تُصاغ بسكون الصحراء ووقارها وهيبتها..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى