مقالات و رأي

حين يتحوّل الضجيج الرقمي إلى عبء على الوعي

أ.د. فيصل عبدالقادر بغدادي
أستاذ جامعي سابق – مستشار التخطيط الإستراتيجي والقيادة

لم يعد الحضور في المنصات الرقمية معياراً كافياً للحكم على مستوى الوعي، كما لم يعد التفاعل المستمر معها دليلاً على الإسهام الحقيقي في بناء المعرفة.. فالقيمة الفعلية لأي منصة رقمية لا تُقاس بحجم الإنتشار أو كثافة المتابعين بل بقدرتها على تعزيز الفهم، وترسيخ الحوار المسؤول وكذلك توفير بيئة تسمح بتبادل الأفكار بصورة راشدة ومسؤولة ومتزنة.

وحالياً وفي واقع الحال وفي صورتها الراهنة أرى في بعض المنصات تحولات لافتة في طبيعة المحتوى المتداول، حيث تحوّل جزء كبير منها إلى فضاء يُغذّي الخلافات ويُكرّس الإستقطاب الحاد، بدلاً من أن يكون مساحة للنقاش الهادئ وتعدد الآراء ولكن المشاهد في الواقع تطغى الأصوات العالية، ويحل الإختزال محل التحليل، حتى بات الإختلاف يُدار بمنطق الصدام لا بمنطق الرأي والرأي الآخر، وهو ما ينعكس سلباً على جودة الحوار العام ومستوى الوعي الجمعي.
وعلى صعيد المعرفة، بات هدر الوقت أمراً ملموساً، إذ يجد المستخدم نفسه أمام تدفق متسارع من المعلومات غير الدقيقة، خصوصاً في القضايا الصحية والطبية، حيث تنتشر الإشاعات وتُتداول الآراء دون سند علمي أو مرجعية موثوقة.

ولا يقتصر أثر ذلك على تشويش الفهم، بل يمتد إلى إضعاف الثقة بالمعرفة المتخصصة، وإرباك المتلقي في التمييز بين الرأي والمعلومة.
وتبرز مفارقة لافتة حين نلاحظ أن القضايا الجادة، التي تتطلب تفكيراً وتأملاً، لا تحظى غالباً بالإهتمام الذي تستحقه وفي المقابل تتصدّر موضوعات سطحية أو مثيرة للجدل للمشهد العام وتُصنع لهذه الموضوعات “الترندات”، وتُمنح مساحات واسعة من التفاعل، وكأن القيمة لم تعد في عمق الفكرة أو جدواها، بل في قدرتها على إثارة الإنفعال اللحظي وإستدراج الإنتباه السريع.
ويزداد المشهد تعقيداً حين تتحول المنصة إلى ساحة هجوم منظم على دول بعينها، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، بأساليب تتجاوز حدود النقد المشروع إلى التشويه والتحريض، في ظل غياب التوازن وضعف التحقق، وسهولة توجيه الرأي العام عبر حسابات موجهة أو حملات مدفوعة وهو واقع يُلقي بظلاله على مصداقية الخطاب العام بل ويُضعف فرص الحوار القائم على الوقائع والمعايير المهنية.
إن الإشكال الحقيقي لا يكمن في التقنية ذاتها، بل في طريقة توظيفها وإستخدامها. لأن وسائل التواصل الإجتماعي وُجدت أساساً لتقريب الأفكار، وتبادل المعرفة، وبناء جسور التواصل بين المجتمعات، لا لإشاعة الفوضى الذهنية أو إستنزاف الوقت في محتوى لا يبني عقلاً ولا يُسهم في الإستقرار الفكري والإجتماعي

وفي هذا الزمن الذي تتعدد فيه المنابر وتتزاحم فيه الأصوات يصبح الوعي النقدي ضرورة ملحّة ويغدو الرهان الحقيقي على جودة المحتوى ووعي المتلقي معاً ولذلك والمفروض إعادة تقييم علاقتنا بالمنصات الرقمية.. وإعادة تقييمنا في الحقيقة ليست موقفاً سلبياً بل ممارسة واعية تعكس حرصاً على ترشيد الإستخدام وحماية الوعي، وتوجيه الوقت والإهتمام نحو مسارات أكثر فاعلية في البناء الفكري والمعرفي.

وللآسف فحين تفقد المنصات الرقمية قدرتها على تعزيز المعرفة والتقارب يصبح السؤال الملح والأهم ليس عن كثافة الحضور بل عن جدواه وليس عن سرعة التفاعل بل عن أثره الحقيقي في الفرد والمجتمع…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى