كوميديا الموقف كرسالة إنسانية: الضحك فن يحمي القلوب ويجدد الروح..

أ.د. فيصل عبدالقادر بغدادي
أستاذ جامعي سابق ومستشار التخطيط الإستراتيجي والقيادة.
في عالمٍ تتسارع فيه الأخبار الثقيلة وتزداد فيه الضغوط النفسية، يظل الضحك أحد أنبل أشكال المقاومة الهادئة.. ليس بوصفه هروباً من الواقع بل كوسيلة إنسانية راقية لإعادة التوازن للنفس، وترميم ما تكسره القسوة اليومية في الأرواح الحزينة لتهدأ..
كوميديا الموقف، أو ما يُعرف بكوميديا الوقوف (Stand-up Comedy)، ليست مجرد إلقاء نكات عابرة، بل هو فن قائم على الملاحظة الذكية للحياة اليومية، وتحويل التفاصيل البسيطة إلى مرآة نضحك فيها على أنفسنا قبل أن نضحك على غيرنا إذ أن الكوميديان الحقيقي لا يسخر من الناس بل يسخر معهم، ولا يجرح المشاعر بل يداويها بإبتسامة.
لقد أثبتت الدراسات النفسية أن الضحك يخفض منسوب التوتر، ويعزز إفراز هرمونات السعادة، ويقوي الروابط الإجتماعية بين الأفراد. فالإنسان حين يضحك مع غيره، يشعر بالإنتماء، ويستعيد حيويته المشتركة. لذلك لم يكن الضحك يومًا ترفاً عابراً ، بل حاجة نفسية لا تقل أهمية عن الراحة أو الأمان.. وتناول الطعام لأننا نحتاج إلى الضحك فعلاً..
غير أن الفارق الجوهري يكمن بين الضحك الراقي والضحك المبتذل.. فالأول ينبع من ذكاء لغوي وبصيرة إجتماعية، وإحترام عميق للآخر.. أما الثاني فيقوم على السخرية الجارحة، أو التنمر، أو إقتحام الخصوصيات وهو وإن أضحك لحظة، فإنه ربما يخلف جرحاً طويل الأمد في الذاكرة والكرامة..
الكوميديا الراقية تلتزم بقاعدة أخلاقية غير مكتوبة أو ربما مكتوبة كسيناريو يوجه الكوميديان ..بمعنى أضحك دون أن تُهين، وانتقد دون أن تفضح، ولفت الإنتباه دون أن تُسقط الاحترام.
فليس كل ما يُضحك يُقال، وليس كل صمت ضعفاً أحياناً بل يكون إحتراماً
في ثقافتنا العربية والإسلامية، لم يكن إدخال السرور على الناس أمراً ثانوياً ، بل قيمة أخلاقية رفيعة المستوى فقد ورد في السنة النبوية ” تبسّمك في وجه أخيك صدقة ” والصدقة هنا ليست مادية، بل شعورية وإنسانية كما أن الإبتسامة الصادقة قد تكون أبلغ أثراً وتعبيراً من خطاب بليغ بل وحتى أبلغ أثراً من خطاب طويل.
والواقع اليوم أحوج ما نكون إلى كوميديا واعية تعالج القضايا الإجتماعية بلطف وتنتقد السلوكيات السلبية لا الأشخاص، وتفتح نوافذ الأمل دون أن تكسر القيم.. كوميديا تُضحك العقول والقلوب قبل الأفواه، وتترك أثراً بعد إنتهاء التصفيق.. فالضحك حين يكون نقيّاً يصبح رسالة.
وحين يكون محترماً يتحول إلى ثقافة.. وحين يُقدّم بوعي، يصبح خدمة إنسانية نبيلة… لا مجرّد نكتة عابرة..



