مقالات و رأي

طَود ينهض في قلب فتاة

طَود ينهض في قلب فتاة

بقلم / أحمد القاري

لم تكن “إيمان الحميد” مجرّد طفلة ولدت فوق مرتفعٍ من جبال جازان، بل كانت جبلاً صغيراً هبط إلى الدنيا في هيئة فتاة، تحمل في ملامحها صمتاً عميقاً، وفي قدرها امتحاناً مضاعفاً.
ولدت طبيعية.. ثم تنفّس القدر قرب مهدها نسمةً ناقصة من الأكسجين، فقُيّد لسانها بقيدٍ خفيف، ثم جاءت الدنيا بامتحانها الثاني.. سقطةٌ على درج منزلٍ قديم، ثم سقطة أخرى من مروحة تحررت من السقف لتستهدف رأسها قبل غروب شمسٍ لم يتّسع نهارها لشفقتها.
خرجت من الطفولة بعَثرة توازن.. لكنها خرجت أيضاً بقلبٍ ينهض حين يسقط الجرم.
كبرت.. وكبر معها ثقل سِرّها ! ثمانية أعوام من العبور البطيء بين السقوط والقيام، وستّ عمليات جراحية تعلّمت منها أن الألم ليس عدواً جاثماً وإنما معلمٌ قاسٍ، يفتح في الروح باباً لا يُفتح لغير الشجعان.
وفي الحادية عشرة، كانت طفلةً تُدرك ما لا يدركه الكبار.. رأت المدارس مغلقة دونها، والحلم معلّقاً بين جازان التي لا تسعها، وجدة التي تلمع كبابٍ بعيد لا يريد أن ينفتح.
دخلت مدرسة عامة، وكانت أمها تمشي معها لتسند قلبها قبل بدنها.

تلقّت إيمان أولى صفعات الحياة من أفواه صغيرة.. ضحكات تسخر من ثقل لسانها.. كلمات تنحت في الذاكرة لقباً موجعاً : “إيمان المعاقة”.
لم تكن إيمان تبكي ضعفاً..
كانت تبكي كبرياءً جُرح.
ومع ذلك كانت الأولى في الصف، تحتضن شهادات التميز كمن يحتضن ما تبقّى من ذاته.

وفي الرابعة عشرة، حين تُزهر البنات، كانت هي تُحارب ظلّها، وتخاف أن تُصبح عبئاً على العالم.
ومع ذلك.. كانت تنهض.. تتعلم أعمال المنزل كلها، تساعد والدتها، وتُثبت لكل من ظنّ بها الضعف أن العجز ليس في اعتلال الجسم أو اختلال العزم.. بل في الهزيمة.
وفي السابعة عشرة خُطبت ولمدة ثماني سنوات.. ثماني سنوات انتظرت فيها قدراً لم يُكتب.. وعندما تزوجت أختها، أخفت غصّتها في صدرها، وعلّقت الفرح على وجهها كي لا تُعكّر فرحتها.
ثم بلغت السادسة والعشرين.. وذهبت إلى جدة كمن يخرج من جلد قديم.. بحثت ثلاثة أشهر عن بابٍ مفتوح، صدمها الرفض من إحدى الجهات، ثم رأت فتاة على كرسي متحرك تعمل بابتسامة.. فنهض في قلبها جبلٌ كان ساكناً.. قالت لنفسها: “لست أقل منهم.. ولا أقل من نفسي”.
تقدمت لمركز آخر .. كان تقييم ذكائها “ممتازاً” لكن الظروف أعادتها إلى جازان قبل أن تكتمل الرحلة.

عادت تطرق باب الدراسة من جديد .. أنهت الأول المتوسط، وتزوجت، وعاشت في المدينة المنورة، وأكملت دراستها وهي تتلقى تنمراً جديداً.. لكنها هذه المرة لم تكن تلك الفتاة التي تبكي في الخفاء .. هذه المرة كانت تقول لكل صوتٍ يحاول أن يحجمها:
“لا أحد يرسم حدودي .. فالله خلقني لأتجاوز، لا لأتوقف”.

واليوم.. تجلس إيمان على كرسي متحرك .. لكنها لا تجلس فوق عجز، بل تجلس فوق قمة صنعها الألم بيديه، كرسيّها هذا عرش عزيمة وإرادة.
تُشبه الجبال التي نشأت بينها .. لا تتحرك كثيراً، لكنها تحمل في أعماقها قوةً تهزّ الأرض.
وتختم رحلتها بشكرٍ لثلاث نقاءاتٍ مرّت في طريقها:
أ. دولت
أ. وداد محمد دوس
أ. أماني أركوبي

أما أنا فأقول لإيمان الحميد:
يا امرأةً خُلقت من صبرٍ يشبه البحر، ومن عزيمةٍ تشبه النخل، ومن قلبٍ يشبه جبال جازان حين تثبت أمام الريح، لم تكوني يوماً معاقة .. بل كنتِ معجزة تتكئ على كرسي.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى