المَشْهد

محمد الرياني

خَطبُوها في الصغر ، سمعتْ بمقدمهم فتزينتْ بأجمل ما عندها ، لفَّتْ خمارًا أبيضَ حولَ وجهِها الدائري الذي يشبهُ إطلالةَ البدر ، همستْ لكلِّ واحدةٍ من صديقاتِها بالخبرِ فتجمعنَ حولها، بِتنَ الليلَ يتذكرنَ قصصَ الطفولة، رسمنَ على الترابِ رسومًا غيرَ مفهومةٍ عن الذكرياتِ ، بقينَ يسترقنَ السمعَ من فوقَ الحائطِ القصيرِ لعلَّ بعضَ الكلماتِ تتجاوزُ الجدارَ ليسمعنَ التهاني، نشبَ جدَلٌ وخصامٌ حولَ مَهرِ الصغيرة ، ارتفعَ لينطلقَ كصوتِ الرصاص، خرجَ الخاطبون يشتاطون غضبًا من رجلٍ يشترطُ المستحيل، انقلبَ ليلُ السَّمرِ إلى حزنٍ وكآبة، قلنَ لها لا تزالين بدرًا في أولِ إطلالاتِه، وقفنَ حولَها وهنَّ يمسَحنَ آثارَ اللعبِ البريءِ من على الأرضِ بأقدامهن، ازدادتْ عُمْرًا ثقيلًا على عمرِها السابق ، بدأَ وجهُها القمريُّ يُظلمُ في بعضِ زواياه ، حضرَ قلةٌ من أصحابِها في مكانٍ ضيقٍ لم يروا فيه القمر، جاء مَنْ يخطِبُها متوكأً ، فرحتْ بخاطبٍ ولم تكترثْ بأمرِ العصا التي تساعدُه على المشي ، القليلاتُ اللاتي حضرنَ لتهنئتها جلسنَ معها ينتظرنَ الفرج، صمتٌ أطبقَ على الليلةِ السوداء، غادرَ الخاطبُ بهدوءٍ ونسيَ عكازه، جاءتْ تستطلعُ الخبرَ وقد انفضَّ المجلسُ ، قال لها أبوها : هذه عصاه ، فهمتِ المغزى فدمعتْ عيناها وانسحبت ، تضاعفَ العمر ، اسودَّ الوجهُ الأبيضُ أكثرَ وقد تمددتْ عليه التجاعيدُ مثلَ جِذعِ شجرةٍ عتيقةٍ في صحراء، بقيَتْ سيرةُ جمالِها في ذاكرةِ الكبار ، حضرَ مَن يحتفظُ في ذاكرتِه بصورةِ الأمس، لم تجدْ الذي يستقبلُه لتلحقَ من العمرِ ببعضه ، دعتْ لأبيها بالمغفرةِ والدموعُ تملأُ وجهها، قال له إخوانُها إنها عافتِ الزواج ولا تجيدُ فنونه ، ذهبتْ إلى الملعبِ القديمِ القريبِ لترى وَجْهَ القمر ، جلستْ على الترابِ ثم حفرتْ بيدها الضعيفةِ حفرةً صغيرةً وضوءُ القمرِ يكادُ يشقُّ الأرض ، سكبتْ دموعَها الحرَّى في الحفرةِ ودفنتْها ، لم تأتِ صديقاتُها لرؤيةِ مشهدَ دفنِ الدموع .

عن شعبان توكل

شاهد أيضاً

ما بين بين ( تطريز )

بلقيس الشميري _جدة مازال لي قبل الحروفِ شعورُ منهُ همى المنصوبُ والمجرورُ أبني به المعنى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.