الخلافات الأخوية سنّة الحياة وابتلاء أزلي

الخلافات الأخوية سنّة الحياة وابتلاء أزلي
بقلم / أحمد القاري
منذ فجر الخلق، ومن أول صفحة في تاريخ البشرية، وُلد الخلاف مع ولادة الإنسان، فها هو قابيل وهابيل، ابنا آدم عليه السلام، يقفان شاهدين على أن الشيطان لا ييأس من بثّ بذور العداوة بين الدم الواحد.
لم يكن الصراع بينهما صراعاً على مالٍ أو جاهٍ، بل على القبول الإلهي، ومع ذلك قاد الغضبُ قابيلَ إلى ارتكاب أول جريمة في التاريخ البشري، حين أزهق روح أخيه الطاهر حسداً وحقداً لما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل، ففاز المقتول ، وخاب القاتل في الدنيا والآخرة. ومنذ تلك اللحظة، غرقت الأرض بدمٍ بريءٍ سفكته غيرة الأخ لأخيه.
ثم تتكرر الصورة في قصة نبي الله يوسف عليه السلام، حين اجتمع إخوتُه على مكرٍ دفين. لم يحتملوا أن يروا حبّ أبيهم لابنه الصغير يوسف، فغلبهم الحسدُ، وقالوا (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخلُ لكم وجه أبيكم) ومع أنهم أبناء نبيٍّ، ومن بيت طهرٍ وكرامة، إلا أن النزاع بين الإخوة تغلّب على الرحمة، ومكروا بأخيهم وكادوا حتى ألقوه في غيابة الجب، لتبقى قصتهم درساً خالداً في عاقبة الصراعات الأخوية حين تفقد الإنسانية بوصلةَ الرحمة.
هذه القصص لم يقصصها الله تبارك وتعالى عبثاً ! وإنما جاءت كمرآة تعكس واقعاً متكرّراً إلى يومنا هذا. فما من بيتٍ إلا ويمرّ بخلافٍ بين الإخوة، مهما كان حبّهم كبيراً وارتباطهم قوياً، ذلك لأن الاختلاف فطرة، وسنّة من سنن الله في خلقه، لكنه حين يتجاوز حدوده، يتحوّل إلى فتنةٍ تمزّق الأرحام وتُضعف الأسرة وتفتح باب الشرور، ويرقص الشيطان على أنغامها.
لقد رأينا في حياتنا أسراً تفرّقت بسبب كلمة، وأخرى تنازعت حتى بلغت قاعات المحاكم، وأخرى امتد الخلاف فيها إلى القطيعة والضرب وربما القتل، كل ذلك لأنهم نسوا أن الخلاف أمر طبيعي، لكن تجاوزه هو الخطر الحقيقي، وغفلوا عن إيجاد الوسائل لدفنه وإخماد نيرانه قبل أن تلتهم رباط الأسرة كالهشيم.
ما نحتاجه ليس القضاء على الخلاف لأنه مستحيل ، بل علينا تهذيبه، وتطويقه في حدود الاحترام والتقدير ، وأن نتذكّر دائماً أنّ الروابط الأسرية أقدس من نزاعٍ عابر.
الأب والأم في البيت هما صمام الأمان، ووجودهما يجب أن يكون كالمحكمة لفض النزاعات الأخوية، وكالمظلةً تحصر تحتها الخلافات، وقد قيل في المثل الشعبي: «اللي ماله كبير يشتري له كبير»، أي أن وجود الكبير في الأسرة يحكم الأمور بعقلٍ راجح، ويمنع الشر قبل وقوعه، وتكون كلمة رب الأسرة هي الحكم الفاصل للخلافات.
نؤكد على أن الخلاف بين الإخوة سيبقى ما بقي الإنسان، لكنّ النبلَ الحقيقي أن نُحسن إدارته، وأن يعلو صوت الرحمة على صوت الأنانية، فالله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى من كان أقوى في الجدال، بل إلى من كان أرحم في العفو.
فيا إخوة الدم والرحم، تذكّروا أن الشيطان لا يفرح بشيءٍ أكثر من تفرّق القلوب المتحابة. وإن كان قابيل قد ندم بعد فوات الأوان، ويوسف قد غفر لإخوته بقلوب الأنبياء، فخذوا العبرة قبل أن يُكتب اسمكم في سجلّ الدم والندم.



