مقالات و رأي

الوعي الرقمي… درع الجيل الجديد وسلاح المستقبل

أحلام قاسم البليهشي

في عصرٍ باتت فيه الشاشات نوافذ الأرواح، والأزرار مفاتيح العقول، أصبح الإنسان محاطًا بعالمٍ رقمي لا ينام، تتداخل فيه الحقيقة بالوهم، والمعرفة بالضجيج، والوعي بالانبهار. وفي خضمّ هذا الطوفان المعلوماتي المتلاطم، لم يعد امتلاك التقنية كافيًا، بل صار الوعي الرقمي هو التاج الذي يُتوَّج به الجيل الجديد ليحيا بوعيٍ ورُقيٍّ واتزان.

لم يعد الوعي الرقمي مجرد مهارة في التعامل مع الأجهزة الذكية أو تصفح الشبكات، بل هو فن الإدراك العميق لما وراء الشاشة، وميزان التفرقة بين المعرفة والتضليل، بين الحرية والانفلات، وبين الاستخدام والارتهان.

هو أن تُمسك الهاتف فلا يُمسكك، وأن تتعامل مع الشبكة دون أن تُصبح جزءًا من خيوطها. إنه إدراكُ الإنسان لمكانه بين العوالم الرقمية، وإحساسه بمسؤوليته الأخلاقية والاجتماعية في هذا الفضاء المفتوح الذي لا يعرف سقفًا ولا حدودًا.

إن الجيل الجديد، وهو يعيش في قلب هذا التحوّل الهائل، بحاجة إلى درعٍ من الوعي يحمي فكره من سطحية المحتوى وزيف البريق. فليس كل ما يُنشر صدقًا، ولا كل ما يُشارك نفعًا. هم أحوج ما يكون إلى وعيٍ يُرشدهم لا إلى حظرٍ يُقيدهم، إلى بصيرةٍ تُنيرهم لا إلى سلطةٍ تُكمّمهم فالوعي الرقمي ليس خوفًا من التقنية، بل هو قدرة على قيادتها بذكاءٍ ورشد، لتكون وسيلة بناء لا وسيلة ضياع.
وهنا تأتي أهمية التربية الرقمية التي تبدأ من الأسرة، وتنضج في المدرسة، وتُصقل عبر الإعلام الهادف، لتشكّل جميعها منظومةً متكاملة تزرع في النشء قيم الحكمة في عالمٍ يفيض بالمعلومة.

والوعي الرقمي لا يقف عند حدود الحذر، بل يمتد ليكون هوية رقمية راقية تُجسّد قيم الإنسان وثقافته، وتحفظ له خصوصيته في زمنٍ تُعرض فيه الذوات كما تُعرض السلع. فصاحب الوعي لا يلهث خلف الشهرة الزائفة، ولا يُقاس وعيه بعدد المتابعين، بل بما يُقدّمه من فكرٍ ناضج ومحتوى نافع وأثرٍ طيب.

إن بناء هوية رقمية راقية يعني أن نحمل مبادئنا معنا إلى الفضاء الإلكتروني، كما نحملها في واقعنا؛ أن نغرس في نفوسنا أن الكلمة مسؤولية، وأن المشاركة انعكاسٌ لذواتنا. فصورة الفرد في العالم الرقمي لم تعد ظلًّا عابرًا، بل مرآةً لجوهره وامتدادًا لاسمه وكرامته.

وفي النهاية، يظل الوعي الرقمي هو النور الذي يُنير درب الجيل الجديد في العتمة الرقمية، والسلاح الذي يقيه من الانجراف خلف المجهول، والبوصلة التي تحفظه من الضياع في بحرٍ بلا شواطئ. فليكن هذا الوعي رفيق كل شاشة، وصوت كل فكر، وراية كل جيل يسعى نحو مستقبلٍ أكثر وعيًا وإنسانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى