مقالات و رأي

عش المرحلة الملكيّة من عمرك

عش المرحلة الملكيّة من عمرك

بقلم / أحمد القاري

يأتي على الإنسان زمان يكتشف فيه أنه بلغ العمر الذي لا يشبه ما قبله.. عمراً يتخفّف فيه من كل الأثقال التي ظل يحملها طويلاً حتى ظنّ أنها جزء من عظامه.. هو زمن يهب الله فيه للمرء نعمة الصفاء، ويُسقط عنه ضجيج المسؤوليات التي كانت ترهق الكاهل وتستنزف الروح.. إنها المرحلة العمرية الملكيّة التي أنعم بها، حيث لا منغصات تتربص بطمأنينتي، ولا أمراض تُقلق الجسد، ولا التزامات تُجبرني على السير في طرق لم أرغب بها يوماً.
في هذا العمر، ينفصل الإنسان عن دوائر الاستنزاف القديمة.. يبتعد شيئاً فشيئاً عن الضغوطات المتواصلة التي تأتي من الأبناء والأقارب وتراكم مطالبهم وتدخلاتهم وهجماتهم، حتى يجد نفسه وقد عاد إلى مركزه الأول: (ذاته) هنا تبدأ الحياة الحقيقية، حياة يسودها الهدوء، وتنحسر عنها توترات الماضي بما فيها من صراعات خفية وواجبات لا تُحصى.
صرتُ أعيش حياة ملكيّة مكتفياً بذاتي.. أهنأ في مملكة يسكنها القليل من الرفاق الذين اختبرتُ معدنهم ووجدت في صحبتهم سنداً وبهجة. هم الذين يملؤون يومي بأحاديث خفيفة، ويشاركونني تفاصيل النهار من أوله حتى آخره، ويمنحون الحياة طعماً لطيفاً لا يصنعه إلا ذوو العقول الراجحة والقلوب الصافية.
وحين يحين وقت الوداع، أعود إلى منزلي وأغلق بابه وقد خلفوا وراءهم ساعات اللقاء، لأدخل بعدها إلى صومعتي الهادئة. ذلك المكان الذي أصبح امتداداً لروحي، لا يسمع فيه المرء إلا نغمات الحياة اليومية: تكتكات عقارب الساعة، نقرات لوحة المفاتيح، صوت تقليب صفحات الكتاب، وتنقّلي بجهاز التحكم عن بعد بين القنوات التي تفتح أمامي مدناً بعيدة وأمكنة لا تطالها قدماي، من الأدغال حتى الصحاري، ومن البحار حتى السحب والجبال والسهول والبراري. مع كل رحلة صغيرة عبر الشاشة، تمتلئ روحي بلحظات سفر لا تشبه شيئاً سوى الحرية.
هناك، في تلك الصومعة، أستعيد نفسي. تزول عني آثار الأحزان القديمة والحروب التي نالت مني يوم كنت قريباً من دوائر الأسرة وصراعاتها التي لا تنتهي.. اليوم، تذوب تلك الآلام في هدوئي الجديد، وأتنفس حياة أكثر رحمة.. صرت ملكاً، وبعيداً عن كل المنغصات التي كانت تدور حولي وتشتعل فوق رأسي بلا توقف.
لم أعد أهتم إلا بما يخصّني: صحتي، وهدوئي، وثقافتي التي تميزني بين الناس. والحمد لله أنني بلغتُ هذه الغاية التي ما كنت لأبلغها لو بقيت حبيساً لتلك الدوامات العائلية الممتدة. الغريب كان أرحم، والبعد كان أصدق، والسكينة أعظم مكافأة بلغتها في الوقت المناسب.

هذا هو عمري الآن: ملكي، هادئ، عامر بالسكون، طاهر من الترهات. عمرٌ يستحق أن يُعاش بكامل الامتنان.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى