مقالات و رأي

فلسفة حكيمة ، لا جدالات عقيمة

الدكتورة : إيمان حماد الحماد
بنت النور/ http://@bentalnoor2005

الفلسفة… حين تُهذّب العقل وتُهدي الطريق ، تصبح نورَ العَقْلِ وَسُلَّمَ البَصِيرَة ..

ففي دهاليزِ الفكرِ حيث تتشابكُ الظنونُ وتتعانقُ الأسئلةُ، تولدُ الفلسفةُ كنبضةِ ضياءٍ في صدرِ الظلام، تُهدهدُ حيرةَ الروح، وتُلملمُ شتاتَ العقل، وتُعيدُ للمسيرِ اتجاهَه بعد طولِ تردّدٍ وضياع.

وليست الفلسفةُ – وإن ظنّها البعضُ رفاهية فكرية – إلا فن تهذيب العقل، وترويض الأسئلة الجامحة، وتوجيه النظر إلى حيث يشرق اليقين.
إنها البوصلة التي تُوازن بين العقل حين يندفع، والروح حين تتوه، والقيم حين تتزاحم في زمنٍ يضجُّ بالاحتمالات.

وليست الفلسفةُ رياضةً ذهنيةً ترفيّة، ولا لعبًا على حبالِ الأفكار، بل هي ميزانُ الحكمة، وسراجُ التأمّل، ولسانُ الحقيقة حين تخرسُ الأصواتُ ويضطربُ الزمان.
إنها مدرسةُ الوعي، ومحرابُ التفكّر، وبوّابةٌ تفتحُ على المعاني التي لا تُرى إلا ببصيرةٍ صافية.

فالفلسفة في أصلها ليست معولًا للهدم كما يتوهم مَن لم يتعمّقوا فيها، بل هي مشروع بناء:
تبني وعيًا، وتُشيّد إدراكًا، وتُقيم في داخلك مرصدًا يرقب حركة الأفكار قبل أن تلامس الواقع.
غير أنّ لهذا الجمالِ ضوابط، ولهذه القوةِ أسوارًا، فالفلسفةُ بلا قيودٍ كالسيلِ إذا اندفع؛ يُهلكُ الزرعَ والضرعَ، ويتركُ خلفه الخرابَ حيث كان الرجاء.

وهي بذلك – ككل قوةٍ معرفية – تحتاج لما يُهذّب مسارها، حتى لا تنقلب إلى فوضى عقلية تطيح بالثوابت أو تعصف بالحقائق:

أول تلك الضوابط:
الصدق مع الذات.
فالذي يخدع نفسه لن يهديه السؤال، ولن تقوده الحِكمة. الفلسفة تبدأ عندما يعترف الإنسان بما يجهل، وبما يخشاه، وبما لا يريد أن يراه في ذاته.
فلا يمشي إلى النورِ مَن يعمى عن عيوبه، ولا يهتدي مَن يُزيّن لنفسه ما تكره، ويُخفي عنها ما يجب أن يُعلن.
والفلسفةُ لا تُهدي قلبًا كاذبًا، ولا تُصلحُ عقلًا يُخادعُ نفسه.

وثانيها: احترام الثوابت الكبرى ، الراسخة .
فالفلسفة لا تزدهر في أرضٍ بلا جذور، ولا تُنبت ثمارها في عقلٍ يقطع ما استقرّ عليه الضمير الإنساني من حقّ وخيرٍ وجمال.
إنها تحاور الثوابت ولا تعاديها، تُنقّيها ولا تمسّ جوهرها، وتعيد تقديمها للوعي بأبهى صورة.
فهي لا تجيءُ لهدمِ اليقين، بل لتطهيره من علَق العادات، وتنظيفه من غبار الزمن.
تحاورُ الثابتَ برفقٍ، وتُقوّي جذوره، وتُقدّمه للعقل في ثوبٍ أكثر إشراقًا وبهاء.

وثالثها: الالتزام بميزان العقل والعدل.
فالفلسفة المنحازة تهدم أكثر مما تبني، والذهن الذي تُضلّله رغباته لن يصل إلى الصواب مهما أطال التأمل.
العقل الحرّ هو الذي لا يركع لِهوى، ولا يخضع لضجيج، ولا يُساوم على الحقيقة وإن خالفت الراحة.
فالهوى إذا دخل دارَ الفلسفةِ أفسدها، والرغبةُ إذا قادتِ الفكرةَ أضلتها.
ولا نورَ يُستضاء به إلا من عقلٍ حرّ، لا تهزّه الشعارات، ولا تخدعه المظاهر، ولا يبيعُ الحقيقةَ بثمنٍ من رضا الناس.

وحين تُضبط الفلسفة بهذه المعايير، تتحول من أسئلةٍ متمرّدة إلى نورٍ يرشد، ومن جدلٍ لا نهاية له إلى بصيرةٍ تُهدي إلى مصلحة الفرد والمجتمع.
فالفكر الواعي لا يقف عند حدود النفس، بل يعبر إلى الناس، يوازن بين الحقوق والواجبات، ويدعو إلى الاعتدال في كل ما يثيره من قضايا.
وإذا التزمتِ الفلسفةُ هذه الحدود، صارت حارسًا للمصلحة لا خصمًا لها، وجسرًا للخير لا حاجزًا دونه.
توجّه الفكرَ إلى ما ينفع، وتردّ المتفلسفَ عن تيهِ الجدل إلى سكينةِ الفهم، وتطفئُ نارَ التعصّب بقطرةِ وعي، وتجمعُ شتاتَ الرأي بخيطٍ من إنصاف.

وللفلسفة أثرٌ بالغ في توجيه السلوك؛ فهي تعلّم الإنسان ألا يكون عبدًا لفكرةٍ طارئة، ولا تابعًا لصوتٍ مرتفع، بل أن يكون صاحب رؤية، يُمحّص قبل أن يتبنى، ويُدرك قبل أن يحكم، ويختار قبل أن يسير.
وحين يتربّى العقلُ على ضوابطها، يغدو أكثرَ رُشدًا، وأصفى نظرًا، وأبعدَ عن الانقيادِ لزخارف القول أو سطوةِ الضجيج.
فالفلسفةُ تعلمه أن يرى الحقَّ قبل الرجال، وأن يعرف المقصدَ قبل الطريق، وأن يحمل فكرًا يُصلحُ ولا يفسد، ويجمعُ ولا يفرّق، ويهدي ولا يضلّ.

إنها صناعة الإنسان الحُرّ:
حرٌّ من الانقياد الأعمى، وحرٌّ من التسرّع في الأحكام، وحرٌّ من القيود التي تفرضها العقول المثقلة بالتقليد.

وعندما تُسخّر الفلسفة في سبيل المصلحة؛ مصلحة النفس، والأسرة، والمجتمع؛ تصير درعًا ضد التطرف، وسدًّا أمام العبث، وجسرًا يعبر بالإنسان من الظن إلى المعرفة، ومن الحيرة إلى الاطمئنان.

إن الفلسفة ليست لغزًا، ولا صرحًا يتعالى عن الناس.
وهي ليست مِعولَ هدمٍ ولا سيفَ خصومة،
بل هي رقةٌ في عمق، وقوّةٌ في حِكمة، ونورٌ يقتبسُ من الحقيقة شعاعًا يضيء به الإنسانُ سبيله.
إنها هبة العقل للإنسان…
فإن أحسن استخدامها صارت نورًا،
وإن تركها بلا ضابط صارت نارًا.

وبين النار والنور ، كتبت تلك السطور …
فالحكمة ضالة المؤمن ، زينة في كل الأمور …
فيها اللسان قد استقام ، لا يلُّف ولا يدور …

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى