مقالات و رأي

جدة كتاب تحت قبة

جدة كتاب تحت قبة

بقلم / أحمد القاري

في جدة، لا تأتي الكتب زائرةً عابرة، بل تدخل المدينة كما يدخل الضوء من نوافذ البحر؛ هادئة، عميقة، ومحمّلة بالدهشة. هكذا بدا معرض جدة الدولي للكتاب 2025، حدثاً ثقافياً يُقرأ بالقلب قبل العين، وتستعاد معه العلاقة الأولى بين الإنسان والحرف، وبين القارئ وفتنة الصفحة الأولى.

هذا المعرض الدائري الذي يقبع في أحضان القبة الهندسية العجيبة “سوبر دوم” بأجنحته المنظمة التي تصطف فيها دور النشر، والرفوف تتباهى بعناوينها، في فضاء حيً للحوار، وميدان رحب تتلاقى فيه الثقافات، وتتصافح فيه اللغات، ويشعر الزائر أن الكتاب ما زال قادراً على أن يكون بطلَ المشهد، رغم ضجيج الشاشات وتسارع الزمن.

في ممراته، تقدَّم الحرفُ العربي بثقة؛ مختالاً بتاريخه، مزهواً بروح حاضره بين الحضارات الأجنبية.. هنا رواية تُمسك بوجع الإنسان، وهناك فكر يوقظ الأسئلة، ودواوين شعر تهمس لمن يعرف أن للكلمات موسيقى لا تُسمع إلا بالقلب، كل جناح حكاية، وكل عنوان وعدٌ جديد بأن القراءة ما زالت قادرة على ترتيب الفوضى داخلنا، وكان الطفل حاضراً بعينيه الفضوليتين وخطوته الأولى نحو الكتاب، في رسالة واضحة بأن الاستثمار الحقيقي يبدأ من العقل الصغير، وأن أمة تقرأ لطفلها، تكتب مستقبلها بوعي مبكر.

أما الندوات واللقاءات الثقافية، فقد منحت المعرض عمقه الحقيقي؛ حيث خرج الكاتب من عزلته خلف الغلاف، ليكون صوتاً مسموعاً يناقش ويختلف ويشارك تجربته، في مشهد يؤكد أن الثقافة حاجة، وأن القلم حين يخط، يترك أثراً يدل على المسير.

جاء معرض جدة الدولي للكتاب 2025 ليؤكد أن المملكة العربية السعودية ماضية بثبات في مشروعها الثقافي، وأن جدة – بتاريخها وانفتاحها – ما زالت مدينة تعرف كيف تحتضن الكلمة، وتمنحها حقها من الضوء والاحترام.
حتى أُسدل الستار الليلة الماضية وانتهى المعرض، وحان الوداع ككل موسم، وداعٌ خرج فيه الناس بقدر ما امتلأت قلوبهم سعادة، وبقدر ما سكنها حزنٌ شفيف. حزن القارئ الذي لم يكتفِ، ولم يرتوِ من الجلوس طويلاً بين الصفحات، ولم يُشبِع شغفه بتصفح العناوين، ولا مصافحة الكتب واحدةً تلو الأخرى.
كان وداعاً يشبه الوقفة الأخيرة قبل العودة، لا نهاية الطريق. وداعاً يقول: إلى لقاء قريب، في معرض قادم، وشغفٍ أكبر.
وفي حدث بهذا الحجم تبقى المملكة العربية السعودية رائدةً في دعم الثقافة والأدب، بمنظوماتها المتكاملة، عبر وزاراتها الثقافية، وهيئاتها في تنظيم الإعلام والأدب والنشر والترجمة، في مشهد وطني يؤمن بأن الكتاب جزء من الوعي، وأن الثقافة ركيزة من ركائز التنمية، فشكراً من قلوبنا لحكومة خادم الحرمين الشريفين على هذا الإمتاع الميداني للكتب، وعلى هذا الحضور الثقافي الذي يثبت أن القراءة مسار وطن، وهوية أمة، ووعد مستقبل.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى