بطانية أبي

ليلى سعد القحطاني 🦋✍🏻
في كل شتاء وعندما يشتد البرد أقوم باستخراج المعاطف الثقيلة، والجوارب الصوفية من الخزانة وبدأ أفتش في الرفوف العالية عن البطانيات التي أخبئها كل عام.
سحبت إحداها، بطانيتي الخاصة، قربتها منى و استنشقتها وفاجأتني رائحتها… رائحتي أنا مازالت موجودة آه ياعطر الشتاء الوفي .
توقّفت لحظة، وتأملت هذا الأثر الذي تتركه الأرواح في الأشياء.
ثم فجأة، ومن بين زوايا الذاكرة، تسللت رائحة أخرى… رائحة لا تشبه شيئًا سوى أبي.
كم اشتقت لذلك الدفء الذي لم يكن مصدره الصوف، بل قلبه.
وهكذا، دون أن أقصد، وجدتني أسترجع ذلك الغطاء العنابي الثقيل، والليالي التي كنا نلتفّ فيها جميعًا حوله… لا لنتدفأ فقط، بل لنتشرّب الحبّ، ونحتمي من العالم داخل حضن أبي.
تلك البطانية لم تكن مجرّد قماش سميك يصدّ البرد، بل كانت حضنًا دافئًا يحتوينا، وطنًا صغيرًا نلجأ إليه كلما أوجعتنا الحياة أو أرعبنا الشتاء.
كانت غطاءً نلفّ به طفولتنا، ونغلف به ضحكاتنا، وكانت موطنًا لحكايات أبي… بصوته العميق، الدافئ، الذي لم يكن يروي الحكاية بقدر ما كان يروي أرواحنا.
كان أبي، رحمه الله، يجلس وسط الغرفة كقلبٍ نابض بالحياة، يُنادي علينا واحدًا تلو الآخر، لا لشيء إلا ليجمعنا تحت جناحيه.
نركض إليه كما يركض الخائف نحو الأمان ليطمئن، نندسّ تحت البطانية، نلتصق به، نصغي، نضحك، ثم نغفو… وكأن الدفء لا يأتي من المدفأة التى كانت تحمل فوق رأسها إبريق الحليب بالزنجبيل، لا بل كان من قلبه الكبير .
لم يكن للبرد آنذاك سلطة، ولا للمطر ولا للريح؛ ما دمنا تحت بطانية أبي، كنا نعيش في أمان لم نعرف مثله بعدها.
لكن الحياة، كعادتها، تمضي… ويمضي معها الذين نحبّهم.
خفَت وهج الطفولة، وارتحل أبي إلى دارٍ لا برد فيها ولا فِراق.
بعد وفاته، تفرّقت أشياء كثيرة… من بينها تلك البطانية.
مرت سنوات طويلة، ولم أرها.
إلى أن زرت أختي الأصغر في إحدى ليالي الشتاء.
كنا نتحلق كعادتنا، نضحك ونتذكر، حتى قالت فجأة:
“انتظرنني لحظة.”
غابت لدقائق، ثم عادت وهي تحمل شيئًا عرفناه جميعًا من النظرة الأولى…
بطانية أبي.
جلست وتلحفت بها، فردت ذراعيها وقالت ضاحكةً باشتياق: “هيّا نحتضن أبي.”
تلك اللحظة لم تكن عادية… كانت لحظة احتفال صامت بالذكرى،
لحظة امتلأت فيها الغرفة بأبي، بصوته، برائحته التي ما زالت تسكن نسيج البطانية: مزيجٌ من دهن العود، والدخان، والقهوة…
لا أعلم إن كانت الرائحة ما زالت حقيقية، أم أن ذاكرتي استحضرت كل شيء دفعة واحدة.
جلستُ أراقب المشهد بصمتٍ امتلأ بالحنين.
كيف لقطعة قماش أن تختزل حضورًا كاملًا؟
كيف يمكن لرائحةٍ باهتة أن توقظ في القلب عمرًا من الأمان؟
لم أنطق بكلمة. فقط شعرت بأن البيت امتلأ به… كأنّه عاد، بنفس الهيبة، بنفس الصوت، بنفس الحنان الذي كان يتسرّب إلينا عبر نظراته وصمته ودفءِ يديه.
كان كل شيء فيه: في البطانية، في الهواء، في الذكرى… وكأن الزمن انحنى احترامًا للحظة.
ابتسمت بامتنان عميق، وتمتم قلبي:
“جميلٌ أن يبقى الأثر حيًّا… أن يزورنا من نُحب حين نشتاق، في أبسط التفاصيل التي لا تُنسى.”
فالحنين، وإن كان موجعًا، يُصبح أصدق حين نُسكته وقلوبنا وحدها تتحدث معه.
ورغم أن البطانية لم تعد معي، فإن دفء أبي لم يغادرني أبدًا.
كلّما اشتدّ البرد، أغمض عيني، وأعود إلى حضنه…
فحتى وإن غاب الغطاء، تبقى الذكرى، وتبقى المحبة، وتبقى الرحمة، ويبقى الدعاء دفئًا لا يبرد.
ربما لا نُدرك ذلك في لحظته…لكن الأرواح تترك أثرًا في الأشياء.تمامًا كما نُعلّق الصور لنُخلّد الوجوه،
فللرائحة أيضًا ذاكرة لا تقل وفاءً عنها.رائحة الأب، رائحة الأم، رائحة لحظة دافئة…
تبقى كامنة في الأقمشة، في الكتب، في الزوايا،تنتظر لحظة برد، أو حنين، لتنهض بكل ما فيها.
فليكن لنا أثرٌ يُشبهنا.ولتكن روائحنا عطرًا للأحبة بعد الغياب، كما كانت بطانية أبي… وطنًا صغيرًا يفوح بالطمأنينة كلما برد العالم،
أبي حبيبي،، سأذكرك هذا الشتاء وكل شتاء وكل اوقاتي،



