أطفالنا واللغة والهوية والمستقبل

بقلم / سارة طالب السهيل
في اليوم العالمي للغة العربية يجب أن نتذكر و نذكّر الأجيال القادمة ان لغتي هي هويتي وشخصيتي وتكويني وعقلي ورابطي الثقافي مع أهلي أصدقائي وزملائي ، وإذا ما فقدت هذه الرابطة ، فإنني أفقد بوصلتي الحقيقية في الحياة .
وللأسف ، فإننا قد تجاهلنا هذه الحقيقة لعقود طويلة في بلادنا العربية ، حينما حرصنا على تعليم الأطفال بدءا من مرحلة رياض الاطفال على اللغات الأجنبية على حساب لغتنا العربية الأصيلة اللغة المقدسة التي هي جوهر وجودنا على أرضنا الطاهرة ، فصار الصغار يتحدثون الانجليزية والفرنسية بطلاقة ونحن نفرح بهم ونهلل على قدراتهم على التعبير بهذه اللغات الاجنبية في مقابل عدم الاعتناء بتعليم اللغة العربية الأم والمحضن .و حتى لا تفهموني خطأ أنا مع تعليم اللغات الأجنبية ولكن بعد إتقان و تمكين اللغة العربية من الطفل والغوص في بحارها العميقه ولكن تسابقت الأسر العربية على تعليم صغارها اللغات الاجنبية واكتساب معارفهم علومهم بها فأحدث ذلك فجوة ثقافية وهوة كبيرة بين هؤلاء الأطفال وباقي أفراد المجتمع ،وباتوا يشعرون بالغربة عن أهلهم و أفراد مجتمعهم.
تخيلوا معي ابنك أو بنتك وتشعر معهم بغربة ليس لأنه من جيل مختلف فهذا طبيعي ، ولكن لأنه تشرب قيم وثقافة اللغات التي تغذى لسانه عليها ونطق بها وتعلم وفكر بها ، فأصبحت الأسرة من داخلها غريبة عن بعضها وأدوات التواصل بينها ضعيفة لأقصى درجة .
إضافة الى المدارس كان هناك خطأ فادح عندما استعانت الأسر بالمربيات الأجنبيات اللواتي علمن أولادهن نطق اللغات الاجنبية ، بينما باقي دولنا العربية تمادت في هذا الخطأ بالتوسع في إنشاء المدراس التي لا تعلم اللغة العربية أو تعلمها كمادة غريبة كمن يتعلم الإسبانية في فرنسا.
وبالضرورة ، فإنني لست ضد تعليم اللغات الأجنبية ، فهي تفرضها معطيات عصرنا والانفتاح على الآخر و متطلبات العمل و التواصل عبر محطات الكون فكريا و ثقافيا واقتصاديا والمشاركة بالمؤتمرات والندوات كما نحتاجها أيضا سياسيا و إعلاميا للتعريف بقضايانا، والقرية الكونية التي نعيش في كنفها ، فلنتعلم اللغات كما قلت لكن ليس قبل أن نزرع لغتنا الأساسية و قيمنا و ثقافتنا في عقول الصغار و نرسخها ، وكما قيل في الأثر “ العلم في الصغر كالنقش على الحجر“ أي أنه يثبت ولا يتزعزع ، حتى لا تكون النتيجة ظهور أجيال منسلخة عن ثقافتها وجذورها الحضارية وقيمها الاجتماعية في مقابل انتماء هذه الاجيال إلى ثقافات لا تشبهنا التي تعلمها في صغره وشكلت فكره وعلاقاته وانتماءاته الثقافية والحضارية .
وهذا يعني أننا بأيدينا وبجهلنا وغفلتنا ساهمنا في تغريب أبنائنا عن لغتهم العربية وعن أوطانهم والانتماء لها من ناحية أخرى ، فإن الكثير من الأسر العربية من المحيط إلى الخليج انجرفت في تيار التباهي والمظاهر الاجتماعية الكاذبة والخداعة والتعالي على الأخرين بتعليم أبنائها اللغات ، وكأن هذا الأمر نوع من البريستيج وليس من حب التعليم ، و كأنه شنطة ماركة تحملها سيدة ما ولا يعبأون بما يكلفهم ذلك من تكاليف مادية باهظة بعضهم لا يقدر عليها ، بل ويكاد يستدين ليغطي تكاليف التعليم في هذه المدارس الدولية إضافة الى التكاليف التي يدفع ثمنها الاهل لاحقا عندما يتغرب الطفل عن مجتمعه و تأتي الكوارث على التوالي أعود و أكرر أنا مع معرفة الآخر و محبة الجميع و التفهم للمجتمعات المتنوعة و أخذ ما يناسبنا و ينفعنا منها و لكن نرفض أن نتشبه بالآخرين بكل ما لديهم و كأن ليس لدينا تاريخ و إرث حضاري و فكري و ثقافي نفخر به.
فأي حمق نرتكبه ليلا نهار !!!، وبعد ذلك نلوم على الأطفال بأنهم غرباء عن المجتمع، ولا يستطيعون التواصل مع الناس عندما يكبرون في العمل و الشارع و الأقارب و المناسبات الاجتماعية ، وأنهم منسلخون عن واقعم وعن عروبتهم ، بينما نحن الكبار العقلاء كنا سببا حين سعينا لاكتساب وجاهة اجتماعية و إظهار المكانة الاجتماعية والمستوى العلمي عبر تعليم صغارنا اللغات الاجنبية و لم نعلمهم العربية و كأنها عيب و عار ، ودون أي احترام للغتنا .
فكل الأمم تفتخر بلغاتها وتحافظ عليها حفاظها على أرضها ودينها لأنها تشكل هويتها وكيانها ووجودها حية نابضة بين الشعوب والأعراق ، بينما نحن قد غفلنا في غمرة التحديث والجري وراء الغرب هذه الحقيقة ان الهوية واللغة وجهان لعملة واحدة فاذا سقط من وجه اختفت العملة .
يؤكد على ذلك المفكر الألماني « فيخته » بقوله: ( إن الذين يتكلمون لغة واحدة يشكلون كيانًا واحدًا متكاملًا بروابط متينة وإن كانت غير مرئية ، فاللغة هي الخيط غير المرئي الذي تنتظم فيه حبات عقد أمة من الأمم ؛ فتتوحَّد مشاعرها وتقوى روابطها .
و المثير للشفقة حقيقة حين ترى اثنين عرب في بلد عربي ليس بينهم أجنبي أو لا يفهم اللغة العربية و يتكلمون في بلد عربي باللغة الإنجليزية أو الفرنسية يصيبني فضول مدموج بالشفقة على من يفتقدون للثقة بأنفسهم و الاعتزاز بها و كدارسة لعلم النفس اصنف هذا ضعف و عدم ثقة بالنفس و خجل من الواقع و الهروب منه إلى عالم آخر
فهل نرى بريطاني يتكلم اللغة الصينية مثلا مع بريطاني آخر على ارض بريطانيا؟ هل نرى فرنسي يتكلم مع صديقه الفرنسي على ضفاف نهر السين باللغة التركية ؟ هل نرى أمريكي عاش في لبنان عشر سنوات و أتقن اللغة العربية و عاد لبلده فيجلس مع صديقه الأمريكي مثل حالته و يتكلم معه باللغة العربية في نيويورك مثلاً؟
هل كان تراجعنا كعرب سبب بهروب ابناء العرب من لغتهم كنوع من الهروب الى الجهة المنتصرة حاليا ؟
و بالعودة لضعف اللغة العربية اليوم بين ابنائنا فهو نتاج طبيعي لتكريس اللغات الأجنبية واعطائها الأولوية في التعليم ، وقد أدى هذا الضعف اللغوي لتعليم العربية إلى ذوبان الشخصية ، وفقد الهوية، وضعف الصلة التي توحد الأمة وتشريعاتها ، وتحقق لها استقلالها، وصمودها في مواجهة التحديات الدولية .
واحقاقا للحق ، فإن الأسر العربية لا تتحمل مسئولية جريمة إهمال لغتنا العربية والانتصار للغات الأجنبية عليها ، وانما يتحملها كل الجهات المسئولة عن إصدار التراخيص للمحال التجارية و العلامات التجارية والمقاهي والشركات والمنتجات المصنعة في دولنا العربية تحمل أسماء أجنبية . فالشوارع العربية في معظمها تحمل لافتات باللغات الاجنبية وكذلك متاجرها ومنتجاتها ، فأين المسئولون من هذه الجريمة .
إنني أدعو لصحوة تعيدنا الي فجر لغتنا العربية الجميلة وايحاؤها باتخاذها عنوانا لافتا لكل محل تجار أو منشأة صناعية أو علامة تجارية ، وإعادة تصحيح تصوراتنا الاجتماعية بشأن الوجاهة الاجتماعية ، فالوجاهة تأتي بالحفاظ على الهوية العربية التي قوامها اللغة العربية .
أدعو كل المسئولين عن التعليم في بلادنا العربية بضرورة التعليم الجيد للغة العربية وتكون لها الأولوية في التعلم خلال مراحل التعليم الابتدائي ، ثم تأتي اللغات الاجنبية كلغات ثانية .

عن شعبان توكل

شاهد أيضاً

بقلم / لمياء المرشد زقزقة العصافير تعلن بزوغ الصباح الجديد . صباح بنسيم العشق والحب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.