مقالات و رأي

تشرين .. ومواسم الدفء والحنين

تشرين .. ومواسم الدفء والحنين

بقلم / أحمد القاري

ها هو تشرين يطلّ من وراء ستار الغيم، متلفّعاً بنسائم باردة تعبق برائحة المطر الأولى، وكأنّ الأرض تستيقظ من غفوتها الصيفيّة لتتنفّس الحياة من جديد.
في تشرين، تتبدّل الألوان، وتخفت شمس الصيف اللاهبة لتفسح المجال لذهبه الخريفيّ الجميل، ذاك الوهج الذي لا يحرق بل يدفئ، ولا يبهت بل يهمس في القلب: “اقترب الشتاء .. فتهيّأ للدفء.”

ويأتي أكتوبر – قلب تشرين وروحه – ليحمل في طيّاته ملامح التحوّل.
هو شهر الحنين والذكريات، شهر البدايات الممطرة، والرسائل الطويلة التي تُكتب على نوافذ الضباب.

قالت العرب قديماً :
“في تشرين يبرد الماء في الغدير، وتحنّ الإبل للمسير”.
فهو زمن الانتقال من لهيب الصيف إلى سكون الشتاء، ومن وهج النهار إلى أنس المساءات.

ولم يهمل الأدباء هذا الشهر، فقد تحدّث الشعراء عن تشرين كفصلٍ للبوح والدهشة..
قال نزار قباني :
” تشرين يأتي، والعصافير اختبأت في دفاتر القصائد، والذكريات تفتح نوافذها على المطر” .

أما الشتاء، فهو فصلٌ لا يُشبه سواه، رغم برده يحمل في طيّاته أكثر اللحظات دفئاً؛ ففي الشتاء تقترب الأرواح، وتتعانق القلوب تحت لحاف من صمت المطر، ودغدغة البرد.
هو زمن الحنين والاقتراب، حيث تشتعل المواقد، وتغني المشاعر أغنيتها الخفيّة.
قال محمود درويش :
“في الشتاء .. نحبّ أكثر،
لأن البرد يجبرنا على الاقتراب” .

وغنّى الشعراء عن المطر والحبّ والدفء في ليالي الشتاء .. ومن أجمل ما قيل وغُنّي :

” رجعت الشتوية ..
يا حبيبي الهَوَى مَشَاوير
وقصص الهَوَى متل العَصَافير” .

تغنّت فيروز بهذه الكلمات وكأنها تصف ذلك الشعور السرّي الذي يولد حين تهطل أولى قطرات المطر على نافذة القلب.

وجاء سلطان المرشد يجر حنين الشتاءات فيقول :

” هذا الشتاء وهذا أنا
باين علينا ها الحنين
باقي مثل ما احنا هنا
نرجي متى غيمك يحين”.

في الشتاء، تتوهّج الأحاسيس وتتقد المشاعر؛ فكل نجمة في سمائه تحمل وعداً جديداً، وكل دفءٍ في حضنٍ يوقظ شتاءً خامداً في الأرواح.

كم من قصة حبّ بدأت في برد ليلةٍ طويلة!
وكم من عين التقت بعين على شرفةٍ مبلّلة بالمطر ودفء قهوةٍ تعقد الوثاق بين روحين!

تشرين وأكتوبر والشتاء .. ثلاث مراحل في رقصة واحدة بين الضوء والظلّ، والحنين والدفء، والفقد واللقاء.
إنها مواسم البدايات الهادئة، حيث تنطفئ نار الصيف لتشتعل نار القلب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى