مقالات و رأي

“إذا رويتَ فسند”

الدكتور/ محمد أديب محمود عبد السلام
بروفيسور في الإعلام الحديث

بسم الله الرحمن الرحيم
حديث اليوم قد يبدو مختلفًا، ولكن من كثرة ما أشاهد، وجدت نفسي مضطرًا للحديث عمّا يجري.

أبدأ بما هو معلوم ومتواتر: إذا رويت فَسند. ما دعاني للخوض في هذا الموضوع هو ما أراه في وسائل التواصل الحديثة؛ سناب شات، واتساب، فيسبوك، تيك توك وغيرها، من أشخاص يدّعون أنهم يسردون التاريخ والوقائع ويوثّقون أحداثًا عاصرها البعض وما زالت قريبة. ولكن عندما أشاهد حجم التشويه والإهدار والتعدي السافر على الحقائق، أتعجب وأسأل: ألا يوجد من يراقب، من يحاسب، من يدقق ويمحص ويصحح؟ من يرد هؤلاء إلى جادة الصواب؟

وكما قال الإمام علي رضي الله عنه: من أَمِن العقاب أساء الأدب.

أنا أعتز بما يكتبه الأستاذ إبراهيم مكعبيد، والمؤرخ المديني الأصيل الأستاذ سعود جعفر عبدالغني، والموثّق الذي يسند ولا يزيد، الأستاذ عبدالمجيد الخراجي. مثل هؤلاء قليل، لكنهم يقدّمون المعلومة كما هي، بلا إضافات ولا رتوش أو ما يسميه البعض “بهارات”. هذا تاريخ وتوثيق وعادات وتقاليد ووقائع نعرف أصلها وفصلها بالسماع أو بالمعايشة، فلا يجوز أن تُنقل بهذه الصورة المشوّهة المليئة بالافتراء والاجتراء.

أقول لهؤلاء: اتقوا الله في تاريخنا وتراثنا وما تقدمونه؛ فالكل سوف يُحاسَب. بعضهم يقول: لم نستدل بآية أو حديث أو قول مأثور، نحن نروي كما نريد وكما سمعنا. وهنا تكمن المشكلة؛ أحاديث مرسلة، وعبارة “يقولون” أصبحت وكالة لا رقيب عليها، بلا سند ولا تدقيق ولا تمحيص. وقائع شهدناها وعايشناها تُنقل مشوهة مصوّرة بطريقة تسيء لإرثنا الحضاري وتاريخنا وتراثنا.

وليت الأمر اقتصر على مدينتنا المباركة؛ فهنا كل من هبّ ودبّ يصور ويتحدث عن الآبار والمساجد والدور والمواقع. المدينة لا تخلو من البركة ولا من الأماكن التاريخية، لكن لها قدسيتها واحترامها.

حضرت ندوة سابقًا، وقال أحد الحضور ممن عرف نفسه بأنه متقاعد من الجامعة الإسلامية: إن بستان الفقير الذي غرس فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده نخيل سلمان، ما يزال يثمر إلى اليوم ولم يتغيّر لأكثر من ألف وأربعمائة وأربعين سنة. تعجبت وقلت لعل المقصود أنه من نسل ذلك الغرس، فقال: لا، هو نفس الغرس وبركته.

معروف أن عمر النخلة أربعون إلى خمسون سنة، فكيف يُعقل هذا؟ ومع ذلك أصرّ على كلامه. والأسوأ أن بعض ضعاف النفوس يبيعون ماءً منسوبًا إلى بئر غرس ويقولون إنه الماء الذي توضأ منه النبي، أو الماء الذي باركه. الموقع معروف، والبئر معروفة، والماء معروف، لكن لا يجوز أن تُنسج الأساطير حول كل شيء.

هذا تاريخ وتراث ومقدرات يجب المحافظة عليها. وعند الحديث عنها، يجب التثبت من الروايات، والرجوع إلى أهل الثقة، وتقديم التوثيق الصحيح. التاريخ الشفوي للمدينة المباركة، وعاداتها وتقاليدها وتراثها وأكلاتها وما وقع فيها من أحداث، لا يجوز أن يُترك لمن يروي اعتمادًا على “يقال” و”سمعنا” وبعض الحركات الممجوجة.

أدعو إلى الرجوع للتوثيق الصحيح، وإلى أن يهتم مركز بحوث ودراسات المدينة بمثل هذه الأمور. جزى الله شيخنا الدكتور صلاح البدير خير الجزاء على اهتمامه وجهوده.

وقد حضرنا محاضرة الأسبوع الماضي عن بساتين المدينة لابنة المدينة البارة الدكتورة نهلة محبة، وكانت محاضرة جميلة وموثَّقة وملتزمة بالمصادر، حتى إنها لم تذكر بستان أسرتها خشية أن يُقال إنها أدخلت شيئًا دون سند.

نحتاج إلى مثل هذه الأقلام الوادعة الملتزمة، سواء في النشر الإلكتروني أو في المحاضرات أو عبر وسائل التواصل.

ما أردته هو التذكير، والذكرى تنفع المؤمنين.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى