مقالات و رأي

موقف إنساني لرجل أمن سعودي في الحرم المكي يعيد تعريف الشجاعة والمسؤولية.. البطولة كيف تقاس؟؟

البروفيسور فيصل عبدالقادر بغدادي..
أستاذ جامعي سابق- مستشار التخطيط الإستراتيجي والقيادة.
تتباين نظرة الناس إلى القوة ومعاييرها بتباين تجاربهم وقيمهم فهناك من يربطها بالقدرة الجسدية أو النفوذ أو السلطة بينما يرى آخرون أن القوة الحقيقية تتجلى في الحكمة وضبط النفس، والقدرة على اتخاذ القرار الصائب في اللحظة الحرجة ، ومع هذا الإختلاف في الفهم يبقى السؤال مفتوحاً أي قوة هي الأجدر بالإحترام حين تكون حياة إنسان على المحك.
ففي خضم التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم وتعدد المفاهيم المرتبطة بالقوة والبطولة، برز موقف إنساني في الحرم المكي الشريف ليعيد ضبط البوصلة الأخلاقية لمعنى الشجاعة والمسؤولية. فقد بادر رجل أمن سعودي بإنقاذ معتمر حاول إنهاء حياته في لحظة دقيقة أختلط فيها الزمن بالخطر، والواجب بالإنسانية.
هذا الموقف الذي جرى في أقدس بقاع الأرض لا يمكن النظر إليه باعتباره حادثة عابرة ثم تُنسى بل نموذجاً عملياً لمفهوم البطولة بمعناه العميق لأن الإنجاز الحقيقي لم يكن في سرعة التدخل فحسب بل في سلامة القرار وفي تغليب قيمة الحياة على أي إعتبار آخر.
ومؤشرات قياس هذه البطولة إنما تُقاس في مثل هذه المواقف بقدرة الفرد على إتخاذ قرار حاسم تحت وطأة ضغط شديد، إذ لا مجال للتردد ولا متسع للخطأ أبداً حيث واجه رجل الأمن ظرفاً إستثنائياً يتطلب يقظة عالية، وسيطرة على الإنفعال، ووعياً بأن أي تأخر قد تكون كلفته روحاً بشرية. وهنا تتجلى البطولة بإعتبارها فعل قوي ومسؤولية لا رد فعل عاطفي.
ويكتسب هذا الموقف بعداً روحانياً إضافياً بحكم المكان المقدس فالحرم المكي الشريف ليس مجرد موقع ديني فقط بل رمز عالمي للأمان والطمأنينة والسكينة (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً)
سورة آل عمران – الآية 97
وعندما تُترجم هذه الرمزية إلى سلوك ميداني واعٍ، فإنها تعكس قوة وعمق المنظومة القيمية التي يقوم عليها العمل الأمني في المملكة العربية السعودية حيث يُنظر إلى الإنسان بإعتباره جوهر المهمة الإنسانية وغايتها.

والذي يلفت الإنتباه في هذا المشهد أن رجل الأمن لم يتعامل مع المعتمر بوصفه مخالفاً أو مصدر تهديد، بل عامله بإعتباره إنساناً يمر بأوقات عصيبة فهذا الإدراك يعكس تطوراً ملحوظاً في مفهوم الأمن الحديث الذي لم يعد يقتصر على الضبط فقط أوالسيطرة بل يتسع المجال الأمني ليشمل الإحتواء، والوقاية، والتدخل الإنساني في اللحظات الحرجة.
لإن إنقاذ شخص من محاولة إنهاء حياته يتطلب أكثر من قوة جسدية إذ يتطلب وعياً نفسياً وحساً أخلاقياً واستعداداً لتحمل المسؤولية الكاملة عن نتائج هذا القرار وبالتأكيد فهذا ما يجعل من هذا الموقف نموذجاً يحتذى به للبطولة الصامتة التي تُمارس دون إنتظار إشادة من أحد وتأتي دون سعي إلى الظهور.

وتكمن أهمية هذا الحدث في رسالته الأوسع والأشمل إذ يؤكد أن المملكة العربية السعودية تضلعت بأمن الحرمين الشريفين بوصفه شرفاً ومسؤولية دينية وتأريخية كبرى،  فجعلت حماية وأمن وطمأنينة قاصدي بيت الله الحرام والمسجد النبوي أولوية ثابتة في سياساتها وخططها ، وسخّرت في سبيل ذلك منظومات أمنية متقدمة، وكوادر بشرية مؤهلة، تعمل بروح الخدمة والإنسانية قبل أي إعتبار آخر. والحقيقة الظاهرة للعيان لم يقتصر مفهوم الأمن على التنظيم والحماية المادية بل إمتد ليشمل صون الكرامة الإنسانية والحفاظ على الطمأنينة والسكينة. وبهذا النهج، رسّخت المملكة العربية السعودية نموذجاً عالمياً في إدارة أمن المقدسات وخدمة ضيوف الرحمن .. وفي هذا الزمن الذي تتراجع فيه بعض القيم تحت ضغط الماديات والصراعات يأتي هذا الموقف ليؤكد أن البطولة لا تُقاس بالمظاهر، ولا تُمنح بالألقاب بل تُقاس بقدرتها على إنقاذ حياة، وحماية إنسان في أضعف لحظاته.
وما قام به رجل الأمن السعودي في الحرم المكي الشريف يمثل درساً مهنياً وأخلاقياً في آن واحد، ورسالة واضحة بأن الشجاعة الحقيقية هي التي تنحاز للحياة، وتضع الإنسان في صدارة الأولويات، دون ضجيج، ودون إدعاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى