أوراقُ النِّيم.. قصة قصيرة

محمد الرياني

غادرَ القريةَ وإحدى عجائزِها تغسلُ ثوبَها تحتَ ظلِّ شجرةِ النِّيمِ الوحيدةِ في القرية، تذكَّرَ أنَّ أباه قال له إنه غرَسَها في هذا المكانِ بعد أن جلبَها من الوادي ، قبلَّ رأسَها ليودعَها وعندما أدركتْه وضعتْ مقلمتَها السوداءَ التي تُغطي بها رأسَها على صدرِها وبعضَ ظهرِها وعيناها تذرفانِ من ألمِ الفراق، لا توجد صلةُ قرابةٍ ولكن الحُبَّ كان أقوى ، وضعَ قدمَه الصغيرةَ على حافةِ الحوضِ الذي تشربُ منه شجرةُ النِّيم، بكى على المرأةِ الطيبةِ وعلى فراقِ الشجرةِ الخضراءِ التي كان أبوه يربطُ في فرعين من فروعها حبلًا ليكونَ أرجوحةً له وللصغار، قبَّلتْ أثرَ قدمِه التي تركَها عندها وسافرَ وقد التصقَ الماءُ الذي بيدها بيده وهو لا يريدُ السفر، وصلَ إلى المدينةِ في ظلامٍ حالكٍ فشعرَ بمرارةِ الغربةِ والليلُ يصرُّ على إذكاءِ روحِ الحزنِ بداخله، أحضروا له خبزًا يابسًا ليسكتَ به صريرَ الجوعِ في ليلٍ طويلٍ بعدَ تعب ، تركَه إلى جواره ونام لأولِ مرةٍ خارجَ بيتهم الصغير، لم يصدِّقْ نفسَه وهو يرى الشمسَ تُشرقُ من بطنِ الجبل ، لم يكن في قريتهم جبلٌ مثلَه، كان يرى الشمسَ تخرجُ دون حواجزَ تمنعها فيذهب إلى ظلِّ شجرةِ النِّيمِ ليرى سيقانَه وأقدامَه وهي تحلِّقُ باتجاهِ الأغصانِ الخضراءِ المرتفعةِ مع حركةِ الأرجوحة ، خرجَ إلى الحيِّ الصغير، جدرانٌ قديمةٌ في الحيِّ الجبليِّ الذي سكنه، لم يسمعهم ينادون بأسماء كأسماءِ أصدقائه ، ينادونَ بعضَهم بحناجرَ جافةٍ ، لم يألفْ بطنُه فولَ الجرَّةِ والدقيقَ المخبوزَ المستدير ، حنَّ إلى لبنِ عمته صالحة وخبزِ جدته ليلى الأحمر ، صاحَ فيهم يريدُ من أكلِ بيتِهم ، ضحكوا عليه ومن أين نأتي لك بأكلِ البيتِ الآن؟ ، اقتربَ منه فتيانُ الحيِّ أكثرَ يريدون صحبَته ، أشعروه بالحب ، قالوا إنَّ عندهم شجرًا يلعبون عنده ويأكلون من ثمره، بدأ يستعيدُ توازنه ، شعرَ أن معدتَه تطلبُ الطعام، مناورٌ الفتى الصغيرُ كان قريبًا منه أكثرَ من غيره، أحضرَ معه حبلًا وربطَه في مدخلِ بيتِهم القريبِ ليلعبَ عندهم الأرجوحة، انضمتْ أختُ مناور الصغرى نورة، كانوا يدللونها نوير، ففعلَ مثلهم، أعجبَه اسمُها كثيرًا، بقيتْ تركبُ على الحبلِ وتشهقُ من الضحكِ وهما يهزَّان الأرجوحة، مضى عامٌ في الغربة، لم ترده أخبارٌ عن شجرةِ النِّيمِ في قريتهم ولم يخبرونه بشيءٍ عن العجوزِ الطيبة ، آخرُ مرةٍ لعبَ الأرجوحةَ مع (نوير ومناور) هو اليومُ الذي سبقَ سفره ، قالَ للصغيرةِ ببراءة: سأسافرُ مع أهلي، قالتْ له لا لا، اجلسْ ونظرتْ في وجهِ أخيها وكأنه تقولُ له لاتدعْه يسافر يامناور، تركَ لهما الحبلَ ليلعبا ويتذكرا الغريبَ الذي لعب معهما عامًا جميلًا ، اشتاقَ إلى شجرةِ قريتِهم و إلى الحبلِ المربوطِ فيها، زادَ عمره عامًا عندما وصل القرية ، مرَّ على الحوضِ الذي كانت تجلسُ عنده العجوزُ لتغسلَ ملابسَها ، وجدَ الشجرةَ ترتدي اللونَ الأصفرَ الباهت ، اقتربَ من الحوضِ وقد تساوى ترابُه مع ترابِ الأرض ، نعوا إليه خبرَ موتِ العجوزِ وأخبروه بعزلتِها في الغياب ، مثلتْ أمامَه صورتُها وهي تقبِّلُ موضعَ قدمِه في التراب، رجعَ إلى الشجرةِ يتأملُ أوراقَها الصفراءَ الذابلةَ وأثرَ حبلِ الأرجوحةِ على فرعِها اليابس، طلبَ من أبيه أن يعودَ إلى ديارِ نورة ومناور ليربطَ حبلَ الأرجوحةِ على بابِ دارهما فلم يخيِّبْ ظنه ، وقفَ عندَ البابِ ولايزال الحبلُ معلَّقًا، دخلَ البيتَ وقد هجرَه أهلُه ، أمسكَ بالحبلِ وبدأ ينشج.

عن شعبان توكل

شاهد أيضاً

ما بين بين ( تطريز )

بلقيس الشميري _جدة مازال لي قبل الحروفِ شعورُ منهُ همى المنصوبُ والمجرورُ أبني به المعنى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.