ما بين بردتين .. قراءة في قصيدة “إطلالة النور” للشاعر عادل عباس

طارق يسن الطاهر

أجمل المدح ما كان في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، فنِعم الممدوح هو ، لأن من يمدحه لن يبالغ في صفاته ، وسيقول حقا ، وينظم صدقا ، وسيؤجر عليه.

برز شعراء كثر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم شاعر الرسول حسان بن ثابت ،وكعب بن مالك ،وعبدالله بن رواحة رضي الله عنهم جميعا ، وفي العصر الحديث تفوقت بردة أحمد شوقي على كل قصائد المدح النبوي ، وجاءنا الشاعر المجيد عادل عباس بهذه القصيدة الفريدة.

بدأ الشاعر قصيدته “إطلالة النور” في مدح النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال يدل على حيرته ، ويصف عجزه عن تحمل البعاد والنوى ، ثم امتاح من بردة كعب ابن زهير “بانت سعاد” ، فأرسل لسعاد يبلغها أن كعبا زاره ، ثم وظّف قصة وضاح اليمن ، ثم وصف شوقه الذي كواه ، وهو ينسج تلك البردة التي يرجو أن تمضي في نهج بردة كعب .

ثم تحدث عن أن الشعراء مهما أجادوا في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ، فما عساهم أن يقولوا ، وقد زكَّاه الله في كل شيء ، وأثنى عليه في كتابه : ( وإنك لعلى خلق عظيم ):
مـــــاذا عســـاني قد أزيــدُ بمدحِـــهِ وعليــهِ في الملكوتِ صلى اللـــــهُ؟!
بل كيــفَ أمضي في تكلفِ وصفِـــهِ والمبـــــدعُ الخـــــلاقُ قـــد زكـــاهُ؟

ثم يوظف بعضا من قصص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم :
مَن مثـــلُ أحمـــــدَ ظللتْـهُ غمامــــةٌ وإليـــهِ حَـنَّ الجــذعُ حيـــن قَــلاهُ؟
إذ أشار إلى الغمامة التي ظللته ، والجذع الذي كان يخطب عليه ، فبكى عندما فارقه النبي صلى الله عليه وسلم ،واتخذ منبرا غيره.
وذكر أنه اليتيم الذي دك عروش الجبابرة ، ودانت له الدنيا وما فيها ، وقام بالدعوة وبلغ الرسالة ، ونشر الدين :
قد قــــامَ للديــنِ الحنيـــفِ مبلغــــاً حتى مـــلا هــــــذا الوجـــودَ هُـدَاهُ

وهوى الشرك:
صــــوتُ الأذانِ يــــرنُّ في جنباتِـــهِ والأرضُ تهتــــفُ كلُّهــــــا : رَبَّـــــــاهُ
وخُرافـــةُ الأصنـــامِ خابَ نصيرُهــا والشـــركُ خــــابَ وأُبطِلَتْ دعــــواهُ

امتاح عادل عباس في هذه القصيدة المتفردة من التراث كثيرا : ومنه قصة وضاح وصندوق وضاح -رغم ما ورد فيها من خلاف – لكنه استطاع أن يوظفها بقدرة فائقة :

أنا مَن أنا؟ وضـــاحُ أم صندوقُـــهُ ؟ أم حســـنُ وضـــاحِ الذي أغـــــواهُ؟ُ

وسبقه عليها البردوني حينما وظفها في قصيدته : “أبو تمام وعروبة اليوم” ، حين تحدث عن صنعاء قائلا :
ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن ولم يمت في حشاها العشق والطرب

كذلك وظف بردة كعب بن زهير توظيفا عالي القيمة :
بانتْ سعــــــــادُ وبنتُ عيني توَّهَتْ عيني، فتهتُ كمـــن بها قــد تاهــوا

برز المكان وجغرافيته في هذا النص ، وكان له دور كبير ، ومن ذلك :
بطحاء مكة / مدينة النور / السماء / الأرض …

النص مكتنز بالصور البلاغية التي وظفها الشاعر لخدمة المعنى ، ولم تكن مقصودة لذاتها
ومن ذلك – على سبيل المثال – الاستعارات في : مدينـــةُ النــــورِ احتفتَ الأرض تهتف ، وغيرها كثير.

والطباق بين : أبكي وأضحـــكُ / أدنى و أقصـــــاهُ ، وغير ذلك …
والترادف لتأكيد المعنى بين : البعاد والنوى / ونوره سناه ، …
والجناس في بانت وبنت / تهت وتاهوا
والكناية في مدينـــةُ النــــورِ ، وهي كناية عن موصوف ، ويقصد بها المدينة المنورة

القصيدة جاءت على بحر الكامل بتفعيلته “متفاعلن” ثلاث مرات في كل شطر ، و الكامل من أكثر بحور الشعر العربي استعمالًا، وهو بحر أحادي التفعيلة يرتكزُ بناؤه على تكرارِ تفعيلة (متفاعلن ///ه//ه).
وفي نص شاعرنا عادل عباس جاء في تفعيلته القطع – وهو علة مقبولة – وهو حذف آخرِ الوتد المجموع ، وتسكينِ ما قبله ؛ فتصبح متفاعل ///ه/ه ، وحين تسكين الثاني تصبح : / ه/ه/ه بدلا من متفاعلن.

واختار شاعرنا قافية الهاء ، والهاء من الحروف التي اختلف علماء اللغة في كونها تصلح حرف روي أم لا ، ولكن اتفقوا في أنه لو كان ما قبل الهاء حرف مدٍّ أو لين كانت الهاء رويّاً بالإجماع، سواء أكانت الهاءات أصلية أم لا ، وذلك ينطبق على هذه القصيدة ؛ إذ الهاء هنا مسبوقة بحرف مد ” الألف ”

المعاني في هذا النص عميقة ، يستلهم الشاعر عمقها من عمق الموضوع وثراء الحديث عنه ، ومن قدرته الفائقة في اللغة ، وبراعته في النظم والسبك.

تفاوت النص بين الخبر بأنواعه والإنشاء كذلك
ومن أمثلة الجمل الخبرية :
صــــوتُ الأذانِ يــــرنُّ في جنباتِـــهِ
وخُرافـــةُ الأصنـــامِ خابَ نصيرُهــا
وتزينتْ بطحـــــاءُ مكــــــةَ
ومدينـــةُ النــــورِ احتفتَ بقدومِـــهِ
وتطلـــــــــعَ الأنصـــــــارُ
لكنًّـــــهُ قد جــــــاءَ ينشئُ دولـــــــةً للحـــــقِّ
وغيرها كثير

ومن الإنشاء الطلبي نجد النداء في : رباه ، أي يا رباه ، وحذف حرف النداء للاختصار والعلم به ، والقرب من المنادى .
وكذلك النداء في :
يا خيـــرَ من سعــدتْ بمقدمِــهِ الدُّنَـا
والاستفهام في :
من أيــن لي قلبٌ ينــاسبُـهُ النــوى؟
بل جمع ثلاثة استفهامات في بيت واحد:
أنا من أنا؟ وضـــاحُ أم صندوقُـــهُ ؟ أم حســـنُ وضـــاحِ الذي أغـــــواهُ؟ُ

استخدم شاعرنا مصطلحات وألفاظ لها دلالات دينية في مكانها السليم وفق مقتضيات النص، ومنها :
بطحاء مكة ، مدينة النور، الأنصار ،العالمين …

أتى عادل عباس باستعمال مميز لم يأت به كثيرون ، وهو استخدام “ال” التعريف اسما موصولا بمعنى الذي ، وذلك في قوله :
أم حظُّهُ المنحوسُ في صندوقِهِ الـ ــكانَ الرشيـــدُ بجوفِـــــهِ أخفــــاهُ؟
“الـ ــكانَ” بمعنى : الذي كان ، وقد جاء بها الفرزدق :
وما أنت بالحكم الترضى حكومته ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
“الترضى ” أي : الذي ترضي

يقول الشاعر في محاولة جهده الدؤوب وسعيه المثابر لمدح محمد صلى الله عليه وسلم:
وأنا أمـــــوسقُ بردتي في أحمــــــدٍ وبكــــلِّ جهــــــدي مــا بلغتُ مَــــداهُ

وأقول له : حسبك أنك أتيتنا بنص باذخ فاره ، ندعو الله أن يجعله شفيعا لك يوم القيامة، ولن يستطيع شاعر تقصي مدح محمد صلى الله عليه وسلم، فهو سماء ما طاولتها سماء.

عن شعبان توكل

شاهد أيضاً

تهنئة بالعيد .. شعر

✍🏻 حسين جرادي ـ أبو ريان العيد قبلة أمي واحتضان أبي العيد أختي أخي هم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.