في جامعة مانشستر – عندما غيّر الحوار نظرة زميلي الياباني إلى العقل العربي المسلم.

البروفيسور فيصل عبدالقادر بغدادي
خلال سنوات دراستي للدكتوراه في جامعة مانشستر كنت أعتبر الوقت أثمن ما أملك لذلك كنت أستثمر عطلات نهاية الأسبوع في متابعة تجاربي داخل وحدة الميكروسكوب الإلكتروني في مبنى Biological School، وهي إحدى أكبر الوحدات المتخصصة في الجامعات البريطانية.
وفي كل مرة أذهب فيها للمعمل أجد زميل من اليابان يحضر هو الأخر لإكمال تجاربه ، والحقيقة فإنني أجد حضوره للمعمل بالنسبة لي كان طبيعياً ومألوفاً .. أجده يعمل بصمت وهدوء بعملٍ دؤوب وكأنه في سباق هادئ مع نفسه ومع الزمن.. ولكن لم أكن أعلم ما يكنه هذا الزميل الياباني وما يشعر به تجاهي ولكنت لا أهتم بذلك في الأصل حيث لم يكن بيني وبينه حديثاً مفتوحاً إذ كل واحد منا منغمس في تجاربه وينتظر نتائجها..
ولكن ذات صباح وأنا أتهيئ لإعداد أدوات والمحاليل لإكمال تجربة جديدة التفت إلي بنظرة بدون سابق إنذار وبنظرة رأيتها في عينيه بنظرة يختلط فيها الاستغراب بالإعجاب قائلاً “أنت تعمل بجد وإجتهاد ولم أتوقع أن تأتي إلى المعمل كل عطلة نهاية أسبوع”
تعجبت من سؤاله وسألته بكل بساطة ولماذا تتعجب وماهي الغرابة في حضوري للعمل ، ولمست فيه نوعاً من التردد ولكنه تردد قليلاً قبل أن يجيب بصراحة متناهية قائلاً كنت أظن أن العرب لا يعملون كثيراً… هكذا نُقلت لنا الصورة لسنوات نظرت إليه مستغرباً من فكرته عن العقل العربي ولكن كانت تلك اللحظة فرصة لتصحيح مفاهيم وتصور لا يخصني وحدي بالطبع بل يخص تاريخ أمة بأكملها وضعت أدواتي جانباً وقلت له بهدوء وبكل ثقة العقل العربي ليس وافداً جديداً على العلم. نحن أبناء إرث صنعه علماء ألهموا العالم بل غيروا وجه التأريخ بإنجازاتهم وإكتشافاتهم وإختراعاتهم .. سردت له نماذج من هذا الإرث الذي لا يمكن تجاهله ، حدثته عن ابن الهيثم، رائد المنهج التجريبي في البصريات عرجت على الخوارزمي، واضع أسس الجبر وصاحب الاسم الذي اشتُقت منه كلمة Algorithm.. ثم أخبرته عن العالم الشهير جابر بن حيان، مؤسس علم الكيمياء الحديثة كذاك لما إبن النفيس غائباً عن ذهني ذلك العالم المذهل مكتشف الدورة الدموية الصغرى قبل أن يتحدث عنها كل العالم بقرون عديدة، وقلت هل قرأت أو سمعت عن البيروني ذلك العالم الموسوعي الذي وضع قياسات عجيبة ومثيرة وما زالت تثير الدهشة والإعجاب وحدثته كذلك وقلت له بحزم أكيد أنت قرأت أو سمعت عن ابن سينا وأنت متخصص في تخصصات طبية فهل تعرفت على الذي ظل كتابه القانون في الطب مرجعاً أوروبياً لستة قرون.
. قلت له عزيزي هذه ليست سردية أو حوادث متفرقة بل هذه جذورنا العلمية التأريخية وحين تراني أو غيري من العرب والمسلمين نعمل بجد وإجتهاد فنحن لا نحاول إثبات صورة جديدة عنا في الوقت الراهن بل نحن إمتداداً طبيعياً لذلك التاريخ وأولئك العلماء الذي مازالت أبحاثهم وإختراعاتهم وإكتشافاتهم هي القاعدة التي تسير عليها الأبحاث والإكتشافات الحديثة.. أطرق بوجهه قليلاً وبدت الدهشة على وجهه سرعان ما تحولت إلى تقدير واحترام. ثم قال بصوت واضحاً يحمل كل علامات الدهشة والإعجاب ..متأسفاً
“لم أكن أعرف كل هذا… لقد فاجئتني والحقيقة تغيرت نظرتي كثيراً .. أنت غيرت فكرتي تماماً فأشكرك”ابتسمت له وقلت له
العلم لا يعترف بالقوميات لكنه ينصف من يخدمه بكل أمانة وصدق ..
والحقيقة كان الحوار بيني وبينه مثيراً وصار منذ ذلك اليوم الحوار بيننا أكثر عمقاً والعمل بيننا أكثر تكاملاً بل وأصبحت تلك اللحظة درساً صغيراً في قوة الحقيقة حين تقال بهدوء وإتزان وفي قدرة الحوار الهادئ على تغيير الصور التي تشوهها المسافات..



