مقالات و رأي

رحل محمد العقلا عن الدنيا…

رحل محمد العقلا عن الدنيا… وبقي أثره فينا لا يزول

الحمدُ لله على قضائه وقدره.

روافد . عقيل بن محمد

في يوم الثلاثاء الموافق ١١/٦/١٤٤٧هـ – ٢ ديسمبر ٢٠٢٥م كانت آخرُ نظرةٍ ألقيتُها على والدي رحمه الله، نظرةَ وداعٍ لا تُنسى، انطبعت في القلب قبل العين، وبقيت في داخلي كأنها لحظة لا تريد أن تغادر الذاكرة. وقد يسّر الله له أموره في حياته وفي مماته؛ من استلام جثمانه، إلى غسله، ثم الصلاة عليه في المسجد الحرام، ومواراته الثرى في مقبرة شهداء الحرم، في موضعٍ طالما أحبّه وارتاح له.

وكان رحمه الله كلما زار جدي وجدتي، وعمّتي نوره، وعمّي فراج، وأبناء عمّي، وأصدقاءه؛ بل وحتى أناسًا لم تربطنا بهم معرفة سابقة لكنه حضر دفنهم ودعا لهم—كان بعد الفراغ من الدعاء يقول لي:
“نهايةُ كلِّ ابنِ آدم هذا القبر.”
وكان يكررها بقلبٍ واعظ، وصوتٍ خاشع، كأنه يذكّرني بحقيقة الدنيا، ويهيئ قلبي لساعةٍ يعلم هو أنها آتية لا محالة.

وكان رحمه الله يوصيني دائمًا بأن أبذل ما أستطيع من عون، وأساعد كل من يلجأ إليّ، وألا أقصّر في حاجة يقدرني الله على قضائها؛ فكان يرى أن خدمة الناس صدقةٌ جارية، وأن قضاء الحوائج بابٌ من أبواب الفضل لا يُغلق.

ولم تتوقف أعماله الخيّرة حتى بعد مماته؛ فقد أوصانا—نحن أهل بيته—بالمداومة عليها، والقرب من المحتاجين، وسدّ حوائجهم بنفسٍ طيبة وخلقٍ كريم، وكأنه أراد أن تبقى بركته ممتدة في حياتنا من بعده.
وكان رحمه الله يذكّر نفسه ويذكّرني دائمًا:
“إذا عملتَ عملًا فأخلِص النيّة لله عز وجل، وليكن العمل لله دون انتظار مردود من أحد.”
فكان يرى الإخلاص زينة الأعمال، وسبب قبولها، وسرّ بركتها.

وكان يقابل الناس بوجهٍ بشوش، وقلبٍ رحيم، ويقابل الإساءة بالإحسان، ويعفو ويتجاوز؛ فما رأيته يومًا يشتكي أحدًا، أو يحمل في قلبه حقدًا على أحد.
وكان يوصيني كذلك ألا أجعل الدنيا همّي الأكبر، ولا أسعى خلفها بما يشغل القلب عن ذكر الله، وكان يقول لي:
“لا تأخذ كل شيء بالدنيا… وأبقِ لك رصيدًا في الآخرة؛ فالدنيا فانية، والآخرة خيرٌ وأبقى.”

وكان كثيرًا ما يردد:
“افعل العمل لله ولا تفعله للناس.”

ومواقف والدي—رحمه الله—لا تُعدّ ولا تُحصى؛ ففي كل ركنٍ له ذكرى، وفي كل زاويةٍ له فعلٌ يبقى شاهدًا على طيب قلبه، وحسن عشرته، وكرم يده، ونقاء سريرته.
كان رجلًا بهدوئه يُطمئن، وبكلمته يُسعد، وبابتسامته يُطفئ الألم، وبوقوفه مع الناس يُحيي فيهم الأمل.

رحل أبي عن الدنيا… لكن أثره باقٍ، ووصاياه حيّة، وسيرته في قلوبنا لا تزول.

اللهم اجعل قبره روضةً من رياض الجنة، وافتح له بابًا من نورٍ ورحمة لا يُغلق، وفسح له في قبره مدّ بصره، واجعل الملائكة رفقاءه وأنيسه.
اللهم اجمعنا به في الفردوس الأعلى من غير حساب ولا سابقة عذاب، واجعل برّه فينا لا ينقطع، واجعل أعماله نورًا يجري بين يديه إلى يوم الدين.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى