سلسلة لحظات دونت صفحات: الدم الأول وبداية سنة القتل (2)

د. منصور بن غازي المحمدي
أكاديمي وخبير تربوي
mansour.articles@gmail.com
في صفحات التاريخ الأولى قبل أن تتشعّب البشرية في حضاراتها وتكتظّ الأرض بأممها وقعت حادثة هزّت كيان الوجود البشري حادثة لم تكن مجرد فعل عنيف عابر بل كانت أول دم أُهرِقَ في الأرض حين قتل قابيل أخاه هابيل.
لقد سجّل القرآن الكريم هذه اللحظة في قوله تعالى: ﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 30] إنها اللحظة التي سَنّت في البشرية شريعة القتل فبعدها لم يُعد العالم كما كان قبلها ، فقد عرفت الأرض الدم لأول مرة وعرفت النفوس أن الحقد إذا اشتعل أطفأ نور الأخوة وأن الغيرة إذا استحكمت دفعت إلى أبشع الجرائم.
إنها بداية صفحة سوداء في كتاب الإنسانية صفحة لم تُطوَ بعد وما زالت آثارها تلاحقنا إلى اليوم كان قابيل وهابيل ابني آدم عليه السلام وكل منهما قرّب قربانًا إلى الله فتُقبِّل من هابيل لأنه قدّم بإخلاص ولم يُتقبّل من قابيل لأن في قلبه غشًّا وضعف نية عندها تحوّل الغلّ إلى فعل والغيرة إلى جريمة فقتل قابيل أخاه وهنا ظهرت أول معصية من إنسان لإنسان بعدما كانت المعصية الأولى من إنسان لخالقه حين أكل آدم من الشجرة .
وقد بيّن النبي ﷺ أثر هذه الجريمة حين قال: “لا تُقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها لأنه أول من سنّ القتل” (رواه البخاري ومسلم) إنها سنة سيئة جارية يحمل وزرها من سنّها إلى يوم القيامة.
ولعل هذا يفتح أمامنا باب التأمل في خطورة أن يكون الفعل السيئ بداية متكررة فالجريمة هنا لم تكن مجرد لحظة غضب بل بداية سلسلة امتدت لتصبغ وجه التاريخ بالدم. وفي الإسلام يُبرز القرآن القصة كعبرة للناس في خطورة العدوان على النفس ويؤكد أن قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعًا ،
كما قال تعالى: ﴿ من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ﴾ [المائدة: 32] وفي التوراة (سفر التكوين) يذكر النص أن “قايين” قام على “هابيل” فقتله في الحقل فجاءه صوت الرب يقول: “دم أخيك صارخ إليّ من الأرض” وهنا يتجلّى أن القتل جريمة تصرخ بها الأرض نفسها وفي المسيحية تُستخدم القصة رمزًا للخطيئة التي تفسد قلب الإنسان ويُنظر إليها كأول تجسيد لضعف الإنسان أمام الغيرة والحقد.
وهكذا توافقت الرسالات السماوية على أن هذه الحادثة لم تكن جريمة فردية فحسب بل بداية خط دموي في تاريخ البشر يذكّرهم دومًا بخطورة اتباع الهوى وترك التقوى .
وإذا كانت أول قطرة دم أُريقت في الأرض قد وقعت بين أخوين فإن التاريخ بعد ذلك امتلأ ببحور من الدماء ويكفي أن نتأمل في أكثر معركة قُتل فيها بشر في التاريخ وهي معركة ستالينغراد (1942–1943) خلال الحرب العالمية الثانية حيث تجاوز عدد ضحاياها مليوني إنسان بين قتيل وجريح وأسير .
لم يكن ذلك صراعًا شخصيًا كما في قصة قابيل وهابيل بل صراع دول وإمبراطوريات لكنه في الجوهر امتداد لتلك السُنّة الأولى التي سنّها قابيل سُنة القتل لإشباع شهوة السلطة والسيطرة وإذا جمعنا ضحايا الحروب البشرية من الحروب الصليبية إلى المغول ومن الحربين العالميتين إلى النزاعات الحديثة فإن العدد يصل إلى مئات الملايين من الأرواح التي أُزهقت وكل روح من هذه الأرواح تُضاف إلى ميزان ذلك الذي سنّ شريعة القتل الأولى كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.
إن المشهد التاريخي الممتد يكشف أن نزعة القتل التي بدأت فردية بين أخوين تحوّلت إلى آلية جماعية تحكم الحضارات وأن القتل ظلّ يتكاثر كظلّ ثقيل منذ أن فُتح بابه لأول مرة وإن هول الجريمة الأولى لا يكمن فقط في قتل نفس بريئة بل في أنها فتحت الباب لكل من جاء بعدها وكما أن من سنّ سنةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، فإن مَن سنّ سُنة سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها ولهذا فإن قابيل يحمل في ميزانه – إلى يوم القيامة – أوزار كل دم حرام أُهرق في الأرض وهذا يجعلنا نتأمل في معنى المسؤولية التاريخية، فَفعلٌ واحدٌ قد يفتح سبيلاً تتدفق منه أفعال لا تنتهي وخطيئة فردية قد تتحوّل إلى ميراث أبدي .
وحين نتأمل هذه القصة ندرك أن القتل لم يكن قدرًا مفروضًا على البشرية بل كان اختيارًا سيئًا اتخذه إنسان واحد فصار أثره ممتدًا إلى يومنا هذا إنها قصة تحذّرنا من أن الشر إذا سُنّ صار ميراثًا ثقيلًا وأن النفس البشرية أمانة عظيمة قتلها ليس جريمة ضد فرد فقط بل ضد الإنسانية كلها وما بين دم هابيل الأول ودماء الملايين في معارك التاريخ يبقى الدرس قائمًا أن القتل خطيئة يتضخم إثمها بقدر ما يتضخم أثرها وأن البشرية لن تجد خلاصها إلا بالعودة إلى ما افتقده قابيل في تلك اللحظة: التقوى التي تعصم النفس من الانزلاق إلى سفك الدماء، وتهذيب النفس بمكارم الأخلاق، وليست هذه الحادثة سوى أول صفحة من صفحات دامية لكنها علمتنا أن لحظة واحدة قادرة على أن تُغيّر مسار التاريخ كله.
إن الدم الأول لم يكن مجرد قطرة سقطت على التراب بل كان بذرة لتيار دموي متدفق نراه اليوم في صور الحروب والإبادة والإرهاب وقد صدق الحديث الشريف في تصويره لهذا الثقل حين حمل قابيل وزر كل دم يُسفك ظلمًا إلى يوم القيامة وما أشد أن يكون الإنسان سببًا لإرث من الخطايا ممتد عبر القرون.
وَسَنُدِرك أن لحظات الأمس ما زالت تكتب حاضرنا وتصنع ملامح غدنا إنها لحظة بدت صغيرة في ظاهرها لكنها كانت في جوهرها نقطة تحوّل في مصير البشرية كلها فبعدها صار التاريخ مثقلًا بدماء لا تُحصى وصارت الأرض شاهدة على أن خطيئة فرد واحد قد تصير خطيئة عالم بأسره ومن هنا ندرك أن البشرية لا تزال تعيش تحت ظلال تلك اللحظة الأولى وأن الخلاص الحقيقي لا يكون إلا حين يفهم الإنسان أن حفظ النفس هو أعظم تكليف وأن الدماء أمانة لا يملك حق إزهاقها إلا خالقها فمن يتأمل بداية القتل الأولى يدرك أن كل حرب لاحقة وكل جريمة وكل معركة إنما هي فروع من أصل واحد غرسه قابيل بيده وأن الزمن مهما ابتعد فإن صداه ما زال يدوّي في وعينا الجمعي كجرس إنذار لا يخفت.



