مقالات و رأي

“السُّونا”… حيثُ تعلَّمْنا أنْ لا نَفْتَحَ كُلَّ بابٍ.

مقالة لي تدخل في باب الأدب الساخر، لمحبي هذا النوع ..حصلت لأخيكم قبل أربعين عامًا، واستروا ما واجهتم.
بقلم: عبدالعزيز قاسم
اعلامي وكاتب صحفي
.
بترقّبٍ حذرٍ، يكادُ يُسمَعُ لهُ وَجيبٌ، كأنني أقدمُ على فكّ طلاسمِ كنزٍ دفينٍ، أبدأُ مهمّةَ فتحِ بابِ غرفةِ “السونا” شبهِ المظلمةِ في النادي الرياضيّ الذي أترَيَّضُ فيهِ.
.
أدفعُ البابَ ببطءٍ شديدٍ، كما يفتحُ لصٌّ محترفٌ خزنةَ بنكٍ في فيلمٍ لـ”جيمس بوند”، وبحذرِ زوجٍ عائدٍ متأخّرًا لبيتِهِ.
.
أدسُّ رأسي أوّلًا، وعينايَ تمسحانِ الغرفةَ كما يمسحُ الجنديّ الميدانَ، وعندما أتيقّنُ أنها خاليةٌ من أيّ أحدٍ، أندفعُ إليها وكأني أهربُ من ندوةِ تطويرِ ذاتٍ، متنفّسًا الصعداءَ، ومبتسمًا ابتسامةَ المنتصرِ في معركةٍ لمْ يخضْها أحدٌ معهُ!
.
ولكنْ، لماذا كلُّ هذا التحفّظِ المشابِ بالوجلِ والقلقِ؟
الإجابةُ أنّهُ نتاجُ تجربةٍ صادمةٍ، مضى عليها أربعونَ عامًا، لكنها ظلّتْ متشبّثةً بذاكرتي كما تتشبّثُ قهوةُ الصباحِ بطاولةِ اجتماعٍ مملٍّ لا ينتهي
.
كنتُ وقتَها لاعبَ كرةِ قدمٍ، ونزلْنا من ربوعِ “الطائفِ” المصيفِ إلى “جدّةَ” عروسِ البحرِ الأحمرِ، لخوضِ غمارِ دورةٍ رياضيّةٍ كبرى مُقامةٍ هناكَ.
.
وتراني – ورفقتي من لداتي – مبتهجينَ بهذا الفندقِ البهيّ الكبيرِ، لكأنّهُ قصرٌ من قصورِ “ألفِ ليلةٍ وليلةٍ” بالنسبةِ لنا، ومسبحُهُ بدا لنا كمحيطٍ في غيرِ وقتِهِ.
.
وبمجرّدِ وضعِ حقائبِنا، لرأيتَنا ونحنُ نتقافزُ في المسبحِ بفوضى عارمةٍ كجرادٍ انتشرَ في حقلٍ مخصّبٍ، جاهلينَ بأبسطِ قواعدِ “الإتيكيتِ”، وبما أنّنا أبناءُ الحواري الشعبيّةِ، حيثُ يعلو شعارُ: “افعلْ ما تريدُ.. متى تريدُ”، لم نبخلْ على المسبحِ بطقوسِنا الفوضويّةِ، غيرَ آبهينَ بنظراتِ الآخرينَ أو همساتِهمْ.
.
ثمَّ جاءتِ اللحظةُ المشؤومةُ: “غرفةُ السونا”!
الاسمُ وحدهُ كانَ يبدو مستوردًا من “هوليود”، والغموضُ الذي يكتنفُهُ جعلنا نقرّرُ اقتحامَهُ، إذْ دفعنا الفضولُ إليها ونحنُ لا ندري كنهَها، ولم نعرفْ ماذا تعني، إلا كما يعرفُ الجملُ الأعرجُ عن سباقِ الخيلِ.
.
وأتذكّرُ أنّنا كنّا خمسةَ فرسانٍ قادمينَ بضحكاتٍ مجلجلةٍ تهزُّ أركانَ القاعةِ، وأصواتٍ عاليةٍ، حالُ أولئكِ الصبيةِ الذينَ عثروا على كنزٍ، ونقتحمُ الغرفةَ وعلى قسماتِ وجوهِنا أقصى ملامحِ السعادةِ والانبهارِ والجذلِ العالي، كأنّنا على أعتابِ الفردوسِ الأعلى.
.
الغرفةِ كانتْ شبهَ مظلمةٍ، ولم نتبيّنْ فيها إلا شبحَ رجلٍ أوروبيٍّ مستكنٍّ في جلستِهِ هادئًا، كتمثالٍ شمعيٍّ في متحفٍ مهجورٍ، وما هيَ إلا ثانيةٌ واحدةٌ وقد تبينّا شيئًا منهُ، لتتحوّلَ كلُّ تلك الملامحِ المرتسمةِ على وجوهِنا إلى وجومٍ كاملٍ، ثمَّ صدمةٍ كهربائيّةٍ صعقتْنا، ثمَّ فجيعةٍ كأنّ الأرضَ انشقّتْ، وترانا لا شعوريًّا نعطيهِ ظهورَنا، متزاحمينَ على البابِ هاربينَ كقطيعٍ مذعورٍ، لا يلوي أحدُنا على شيءٍ سوى النجاةِ بجلدِهِ.
.
ما الذي حصلَ لنا لنهربَ ولكأنّنا رأينا عفريتَ جنٍّ، أو شبحًا من الأمواتِ الأحياءِ “الزومبي”، لتنقلبَ سِحنتُنا إلى ذلكَ الرعبِ، ولم ندرِ بأنفسِنا إلا في مهاجعِنا، وقلوبُنا تدقُّ بشدّةٍ بوجيبٍ غيرِ منتظمٍ، كطبولِ حربٍ في ليلةٍ ظلماءَ؟
.
الذي حصلَ، أنّنا ما إنْ توغّلنا في العتمةِ الساخنةِ، حتى لمحْنا كائنًا لا تصفُهُ الكتبُ: “علجٌ أشقرُ”، يجلسُ كما خلقَهُ اللهُ، عريانًا بملءِ قامتِهِ، وبالتعبيرِ المصريِّ الشعبيِّ: “ملط”، وتفرَّقت أبصارنا نحن الخمسةِ على جزءٍ مختلفٍ من جسدِهِ، وكأنّنا نتفحّصُ قطعةً أثريّةً نادرةً.
.
كلُّ واحدٍ منّا كانَ قد لمحَ جزءًا من المشهدِ الذي لا ينبغي رؤيتُهُ، ولأنّ المصيبةَ إذا عمّتْ هانتْ، بدأ كلٌّ منّا يصفُ ما وقعتْ عليه عيناهُ، ولا أنسى أنّهُ كانَ كبيرًا في السنّ من تجاعيدِ وجهِهِ، حتى جاءَ صاحبُ الملاحظةِ القاتلةِ: “كانَ غيرَ مختونٍ!”
.
وهنا، توقّفتِ الحياةُ للحظةٍ، ثمَّ تحوّلَ الجمعُ إلى كتلةٍ من القرفِ والانفعالِ، وكأنّ رائحةً كريهةً قد التصقتْ بأنوفِنا للأبدِ.
.
بالطبعِ، أمسكْنا عليهِ ذلكَ، ولكنْ: كيفَ استطاعَ في تلكَ الغرفةِ الشبهِ مظلمةٍ، أنْ يلمحَ هذا الجزءَ الحسّاسَ منهُ؟
سؤالٌ يبقى لغزًا محيّرًا كلغزِ “أبي الهولِ”.
.
ومن يومِها، أظنُّ أنّ نصفَ الرفقةِ أقسموا بعدمِ دخولِهم غرفةَ القرفِ والرعبِ تلكَ طيلةَ حياتِهم، وكأنّها بئرٌ من بِئارِ الجحيمِ.
.
ردّدتُ: “حينَ ترى ما لا يجبُ أنْ يُرى، تُدركُ أنّ بعضَ الأبوابِ لم تُخلقْ لتُفتحَ، بلْ لتُتركَ موصدةً للأبدِ!”
.
أخوكم، قاطعَ غرفةَ “السونا” لعشرينَ أو خمسةٍ وعشرينَ عامًا، كأنّها موبوءةٌ بالكوليرا، حتى اضطررتُ إليها اضطرارًا، وتجدني كلّما أردتُ دخولَها، أفتحُ ببطءِ سلحفاةٍ مسنّةٍ البابَ، وأتأمّلُ جيّدًا خلوّها، لألجَ بعدها، كمنْ يتفقّدُ حقلًا ملغّمًا قبلَ أنْ يخطوَ فيهِ.
.
هي صدمةٌ ثقافيّةٌ، بلا شكٍّ.
نحنُ أبناءُ فطرةٍ تسترُ حتى الظلَّ، وهو ابنُ حضارةٍ تخلعُ حتى الضميرَ.
نحنُ الذينَ تعوّدْنا أنْ نلبسَ الحياءَ حتى في أحلامِنا، لم نكنْ مستعدّينَ لمواجهةِ حضارةٍ تتعرّى حتى منَ الخجلِ.
.
هي ثقافاتُ شعوبٍ، بالتأكيدِ، والصدمةُ أتتْ من الفطرةِ التي كنّا عليها وقتذاك، هذهِ الفطرةُ التي بدأتْ تتآكلُ في هذهِ الأجيالِ الجديدةِ، التي ربّما دخلتْ “السونا” وهي تتناولُ المرطّباتِ، غيرَ آبهةٍ بمنْ فيها.
.
عمومًا، هي صدمةٌ جعلتني أُدركُ أنّ بعضَ التجاربِ لا تحتاجُ إلى تكرارٍ، بلْ إلى تعويذةِ نسيانٍ… وسطلٍ من “الكلورِ الأخلاقيِّ”.
.
وأخيرًا، وكما نقولُ في شعبيّاتِنا: “استروا ما واجهتُم!”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى