مقالات و رأي

سلسلة لحظات دونت صفحات : الطوفان الكبير لحظة غيّرت وجه البشرية(3)

د. منصور بن غازي المحمدي
أكاديمي وخبير تربوي
mansour.articles@gmail.com

في ذاكرة التاريخ الإنساني، هناك أحداث بدت وكأنها لا تخص جيلًا بعينه، بل تخص البشرية كلها، لحظات فاصلة أعادت كتابة القصة من جديد. ومن أعظم تلك اللحظات وأكثرها إثارة للتأمل والرهبة الطوفان الكبير في زمن نوح عليه السلام، ذلك الحدث الكوني الذي لم يكن مجرد كارثة طبيعية عابرة، بل لحظة فاصلة بين البشرية الأولى والبشرية التي جاءت بعدها، لحظة تحوّل فيها التاريخ من مسار إلى آخر، وانقسم الوجود البشري إلى ما قبل الطوفان وما بعده.
لقد قصّ القرآن الكريم تفاصيل هذه الحادثة العظمى في أكثر من موضع، فجاء في قوله تعالى: ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ﴾ [الأعراف: 64]، وقوله سبحانه: ﴿ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ ﴾ [القمر: 13-14]. لقد كان الطوفان جوابًا إلهيًا على انحراف البشرية الأولى، وتطهيرًا للأرض من فساد عَمَّ وشمل، وعبرة لكل من يأتي بعدهم.
إن المشهد المهيب للطوفان كما وصفته النصوص الدينية يتجاوز حدود المخيلة. فالسماء فتحت أبوابها بماء منهمر، والأرض فجّرت عيونها، فالتقى الماء على أمر قد قُدر. وغمر الطوفان القرى والجبال، وابتلع المدن والسهول، حتى لم يبقَ حيّ إلا من ركب مع نوح في الفلك المشحون. لم تكن النجاة مسألة قوة أو ثراء أو مكانة اجتماعية، بل كانت مسألة إيمان وطاعة، ومن هنا تحوّل الطوفان من مجرد حادث طبيعي إلى درس أبدي في معنى النجاة والخلاص.
في الروايات التوراتية يُذكر أن السفينة استقرّت على جبال أراراط، بينما يذكر القرآن أنها استقرت على الجودي: ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ﴾ [هود: 44]. وعلى اختلاف التفاصيل بين الديانات، فإن القصة حاضرة بقوة في كل تراث بشري تقريبًا؛ حتى في أساطير شعوب ما بين النهرين وملحمة “جلجامش”، حيث يظهر الطوفان كحدث كوني غيّر مسار الحياة. هذا التوافق بين الحضارات المختلفة يعزز الفكرة أن الطوفان لم يكن حدثًا محليًا محدودًا، بل تجربة إنسانية عميقة صارت جزءًا من الذاكرة الجمعية للبشرية.
ولعل الطوفان يمثل أعمق لحظة في تاريخ الوجود، لأنه كان إعادة تشكيل شاملة للمجتمع الإنساني. فبعد أن فني الجيل الأول، خرج نوح ومن معه ليكونوا نواة للبشرية الجديدة، حتى وصفه القرآن بأنه: ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ [الصافات: 77]. لقد كانت بداية جديدة لمجتمعات سَتُعيد بناء حضارتها من نقطة الصفر. إنها لحظة تشبه ميلادًا جديدًا للأرض، لحظة انطوت فيها صفحة البشرية الأولى بكل ما حملته من فساد، وبدأت صفحة جديدة لا تقوم على النسب أو القوة، بل على الإيمان والطاعة والنجاة.
لكن الطوفان لا يُقرأ فقط كتاريخ قديم، بل كرمز فلسفي عميق. ففي كل عصر، يمكن أن نرى “طوفانًا” بمعناه المجازي: طوفان الظلم، طوفان الشهوات، طوفان المادة الذي يغرق القلوب. وكما لم ينجُ من الطوفان إلا من ركب مع نوح، فإن النجاة في طوفانات العصر لا تكون إلا بالتمسك بالقيم التي تحفظ إنسانية الإنسان. الطوفان هو لحظة الحقيقة، حين تنكشف هشاشة القوة البشرية أمام قوة الله، وحين يكتشف الإنسان أن الحضارات مهما تعاظمت تبقى معلقة بخيط رفيع من الرحمة الإلهية.
إذا قارنا الطوفان بالحروب العالمية التي اجتاحت البشرية في القرون الأخيرة، أو بالكوارث البيئية التي تهدد العالم اليوم، نجد أن الدرس واحد: أن الحضارة قد تنهار في أيام معدودة إذا فقدت أساسها الأخلاقي والروحي. فكما أَغرَقَ الطوفان قوم نوح بعد عناد طويل، فإن الحضارات الحديثة مهددة بطوفانات جديدة إذا فقدت بوصلتها الروحية.
إن الطوفان الكبير لم يكن مجرد ذكرى بعيدة، بل مرآة مستمرة تذكّر الإنسان بحقيقة وجوده. إنه يعلّمنا أن الشر إذا انتشر فمصيره الفناء، وأن الفساد إذا عمّ فنتيجته الطوفان، وأن الخلاص لا يكون إلا بالحق والإيمان. ومن هنا كان الطوفان لحظة فاصلة، دوّنت صفحة جديدة في كتاب البشرية، فصلًا يذكّرنا أن الله قادر أن يُبدأ وأن يُعيد، وأن البشرية مهما تشعبت وتطورت فإنها لا تخرج عن دائرة سننه في العدل والرحمة والعقاب.
وهكذا يبقى الطوفان حدثًا يتجاوز التاريخ، لأنه ليس مجرد حكاية عن الماضي بل رسالة للحاضر والمستقبل. رسالة تقول للإنسان: إنك إن تركت الفساد يستشري، وإن أطفأت نور الإيمان، فانتظر طوفانك الخاص. أما النجاة، فهي كما كانت في زمن نوح، لا تُشترى بالمال ولا تُنال بالقوة، بل تُمنح فقط لمن ركب فلك الطاعة والإيمان. ولعل من أعمق ما يكشفه لنا الطوفان أنه يمثل لحظة التوازن بين الهلاك والنجاة، بين الغضب الإلهي والرحمة الإلهية. ففي الوقت الذي فني فيه قوم نوح جميعًا، أبقى الله على ذرية جديدة لتبدأ الأرض حياة أخرى، وكأن في الطوفان إعلانًا بأن النهاية ليست عبثية، بل بداية جديدة مشروطة بالتقوى والإيمان. ومن هنا يمكن أن نفهم أن قصة الطوفان ليست مجرد سرد، بل رمز خالد بأن التاريخ يعيد نفسه: فساد يعم، إنذار يأتي، تكذيب يقع، ثم طوفان يُغرق. لكن دائمًا هناك فلك ما، فلك يصنعه المصلحون، فلك النجاة الذي لا يركبه إلا من تمسك بالحق.
بل إن كثيرًا من الباحثين يرون أن الطوفان ترك أثرًا نفسيًا في الوعي الجمعي للبشرية، فجعل الإنسان منذ ذلك الحين يربط بين انحرافه الأخلاقي والكوارث الكبرى التي تحل به. لذا لم تكن فكرة الطوفان حاضرة في النصوص الدينية فقط، بل انعكست في الأدب والأساطير والفلسفات، لتظل رمزًا يحذّر الناس من مغبة الانحراف. إن الطوفان الكبير إذن ليس مجرد فصل في الماضي، بل هو مفتاح لفهم حاضر الإنسان ومصيره، يذكّره أن الأرض ليست ملكًا له يفعل بها ما يشاء، بل أمانة بين يديه، وأن استقامة القلوب هي صمام أمان الحضارات، فإذا فُقدت كان الطوفان مصيرًا محتومًا.
ومن اللافت أن الطوفان يُعَدّ الحدث الوحيد تقريبًا الذي تتفق على روايته معظم الديانات والحضارات، مما يوحي أنه لم يكن مجرد كارثة محلية، بل تجربة جامعة للبشرية كلها. وهذا ما يجعل الطوفان أشبه بجدار فاصل بين مرحلتين من الوجود الإنساني، مرحلة التمرد والفساد، ومرحلة النجاة والإيمان. إن استدعاء هذه اللحظة اليوم ليس مجرد حنين إلى الأسطورة، بل تذكير بأن الإنسان ما زال يعيش مهددًا بطوفانات أخرى، بعضها طبيعي كالأعاصير والفيضانات، وبعضها أخلاقي وحضاري أشد فتكًا.
ومن هنا يمكن أن نربط الطوفان الكبير بواقعنا المعاصر: فكما كان الفساد سبب الهلاك في زمن نوح، فإن انهيار القيم الروحية والإنسانية اليوم يهدد البشرية بطوفان من نوع آخر، طوفان التكنولوجيا إذا استُعمل بلا أخلاق، وطوفان الحروب إذا اشتعلت بلا ضابط، وطوفان الاستهلاك إذا استمر بلا وعي. إنها كلها طوفانات تُذكّرنا أن فلك نوح لم يكن مجرد سفينة خشبية، بل رمز لكل مشروع إنقاذ يستند إلى الحق والتقوى.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى