مقالات و رأي

التنمر الرقمي ، جرائم خفيّة خلف الشاشات …

الدكتورة : إيمان حماد الحماد
بنت النور: http://@bentalnoor2005

في زمنٍ أصبحت فيه التقنية لغة العالم، والشاشات نوافذنا إلى الحياة، ظهر وجهٌ مظلم لعصر الاتصال يُعرف بالتنمر الرقمي؛ وهو سلوكٌ عدوانيّ يُمارَس عبر الوسائط الإلكترونية، يحمل في طيّاته إهانةً أو سخريةً أو تشهيرًا أو تهديدًا، لكنه رغم خفائه، يترك أثرًا عميقًا في النفس، كطعنةٍ لا تُرى ولكنها تُوجِع.

التنمر الرقمي تعدّى حدود الكلمات المكتوبة ، أو الصور المنشورة ، أو التعليقات الذي ظلت بأذهاننا محفورة ؛ فنراه أصبح اعتداءً على الكرامة الإنسانية، يقوّض الثقة بالنفس، ويزرع الخوف والارتباك، ويهدم الشخصية من الداخل حتى تفقد توازنها. إنه شكلٌ من أشكال العنف النفسي الحديث، يختبئ خلف الأقنعة الرقمية ليُمارس قسوته دون رادع من ضمير.

كم من موهبةٍ طُمِست بسبب كلمةٍ جارحة؟
وكم من حلمٍ انكسر تحت وطأة سخريةٍ أو إشاعةٍ أو تحريضٍ عبر فضاءٍ لا يرحم؟
ضحايا التنمر الرقمي لا ينزفون دمًا، بل ينزفون كرامةً وصمتًا وألمًا، فيخفت بريقهم، وتذبل ثقتهم بأنفسهم، ويعيشون عزلةً يائسة خلف شاشاتٍ كانت في يومٍ من الأيام وسيلة تواصلٍ وسعادة.

يزداد خطر هذا النوع من التنمر لأنّه يطارد الضحية في كل مكان، في الهاتف، وفي البريد، وفي الحسابات، فلا مأمن منه ولا مفر، حتى تصبح التقنية التي خُلقت لتقرّب الناس وسيلةً لهدم النفوس وإبعادها.

إنّ مواجهة التنمر الرقمي ليست مسؤولية الضحية وحدها، بل هي واجبٌ مجتمعيٌّ وأخلاقيٌّ وإنسانيّ، تبدأ بالتربية على احترام الآخرين، وبغرس قيمة الكلمة الطيبة، وبنشر ثقافة التواصل الراقي التي تُعلي من شأن الخُلق، وتُدين الإساءة والتهكم.
كما يجب أن تتكامل الأدوار بين الأسرة والمدرسة والمجتمع لتوعية الأبناء، وتعزيز وعيهم بحقوقهم الرقمية، وحمايتهم من آثار العنف الإلكتروني.

فحمل الأجهزة مسؤولية، والحرية لا تعني الإيذاء، والتقنية لا تبرّر القسوة.
والكلمة أمانة، والكتابة رسالة، والفضاء الرقمي مرآةٌ تعكس نبل الإنسان أو سوءَ خلقه.
فلنكن من الذين يبنون بالكلمة لا يهدمون، ويُرمّمون القلوب لا يجرحونها، ويجعلون من التقنية وسيلةَ نورٍ لا سلاحَ ظلامٍ.
فلنجعل من فضائنا الرقمي ساحة نورٍ لا ظلام، ومساحة بناءٍ لا هدم، ومنصّة احترامٍ لا إساءة.

فأعظم الناس شأنًا، من يرتقي فوق الإساءة، ويواجه القبح بالجمال، والعدوان بالحكمة، والجهل بالوعي، لتبقى إنسانيتنا منارةً لا تنطفئ مهما اشتدّ الظلام.
وأعظم الانتصارات ليست في إسقاط الآخرين، بل في الارتقاء فوق الإساءة بثبات وثقةٍ وسلام.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى