مقالات و رأي

لحظات فاصلة دونت صفحات .. (1)

د. منصور بن غازي المحمدي
أكاديمي وخبير تربوي
mansour.articles@gmail.com

 وجعلت ما بعدها مختلفًا تمامًا عمّا كان قبلها. قد تكون اللحظة ومضة وحي نزل من السماء، أو صرخة ثائر أسقطت عرشًا، أو اكتشافًا علميًا فتح أبوابًا لم تغلق بعدها أبدًا، أو حتى انهيار جدارٍ كان يقسم عالمًا فانفرج بانهياره عهد جديد. كل لحظة من هذه اللحظات لم تكن عابرة، بل صنعت أثرًا ما زلنا نعيشه حتى اليوم. إنها لحظات هزّت الضمائر، وأشعلت العقول، وأطلقت مسيرة جديدة للإنسانية لم تكن تخطر على بال الذين عاشوها لحظة وقوعها.

وفي هذه السلسلة من المقالات، سنسافر عبر الزمن لنقف عند تلك المنعطفات الكبرى، نقرأها قراءة تجمع بين عمق الفكرة وتأمل الفلسفة وسحر السرد، فنعيشها لا كأخبار بعيدة، بل كصفحات نابضة بالحياة. سنرى كيف دوّن التاريخ أعظم فصوله، وكيف صنع الإنسان – بإلهام الوحي أو اندفاع العقل أو حرارة الثورة – منعطفاته الكبرى. وسنستحضر أصوات أولئك الذين كانوا شهودًا على هذه اللحظات، لنشعر بحرارة الموقف، ونفهم سرّ التحولات التي غيّرت وجه العالم. هذه المقالات ليست درسًا في التاريخ فحسب، بل نافذة لفهم الحاضر واستشراف المستقبل، لأن من يعرف اللحظات التي صنعت الأمس، يدرك كيف تُصنع لحظات الغد. إنها دعوة للتأمل في أن التاريخ ليس مجرد سطور جامدة، بل هو روح تتحرك فينا، وذاكرة حيّة تذكّرنا بأن لحظة واحدة قادرة على أن تفتح عهدًا جديدًا، وتكتب صفحة جديدة في كتاب الإنسانية الذي لم يكتمل بعد.

المقال الأول: أول اختلاف في البشرية وإرسال الرسل: استعادة الطريق بعد انحراف الإنسان.

يخبرنا الله تعالى في قوله الكريم: ﴿كان الناس أمةً واحدة فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه﴾ [البقرة: 213] عن قصة الإنسانية منذ بدايتها وحتى لحظة تحوّلها الكبرى. لقد بدأ البشر أمة متحدة على الفطرة، يعيشون في ظل التوحيد، يعرفون خالقهم ويعبدونه، ويجتمعون على صفاء العقيدة ونقاء الفطرة. يروي ابن عباس – رضي الله عنهما – كما نقل ابن كثير في تفسيره: “كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق”، وهذا يوضح أن الأصل في البشرية لم يكن الصراع ولا التشتت، بل الاتفاق على عبادة الله وحده. لكن مع مرور الزمن، ومع تعاقب الأجيال وتراكم الشهوات والأهواء، بدأ الخلاف يظهر بين الناس. فبعضهم ظل متمسكًا بالتوحيد، بينما انحرف آخرون فابتدعوا عن الدين وعبدوا الأصنام والأوثان، وهنا وقع أول اختلاف في البشرية، اختلاف في العقيدة التي هي أساس الوجود الإنساني. وقد ذكر الإمام الطبري أن معنى قوله تعالى “كان الناس أمة واحدة” أنهم كانوا جميعًا على الهدى فاختلفوا ثم انقسموا. ويؤكد الإمام القرطبي في نقله عن السلف الصالح بأنهم كانوا مؤمنين فاختلفوا فبعث الله النبيين للفصل بينهم. وجوهر المعنى أن الانقسام كان بداية الانحراف، وأن بعثة الأنبياء كانت ضرورة لإصلاح المسار.

ولعل أوضح مثال على هذا الانحراف ما وقع في قوم نوح – عليه السلام – حين ظهر أول شرك في الأرض. فقد كان في قومه رجال صالحون يعبدون الله بإخلاص، فلما ماتوا حزن الناس عليهم حزنًا شديدًا، فجاء إبليس فزيّن للناس أن ينصبوا تماثيل على صورهم ليذكروا الناس بعبادتهم ويقتدوا بهم في الخير. ففعلوا ذلك، ولم تُعبد الأصنام في أول الأمر. لكن مع مرور الزمن ونسيان الأجيال الأولى، جاء الأحفاد فظنوا أن هذه التماثيل تُعبد من دون الله، فتحولت الذكرى إلى وثنية، وصارت الأصنام آلهة تُقدّس وتُرجى. وهكذا بدأ أول شرك في الأرض. قال تعالى عن قوم نوح: ﴿وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا﴾ [نوح: 23]. وهذه الأسماء كانت لأشخاص صالحين من قوم نوح، ثم انقلبت ذكراهم إلى أصنام، وصاروا رمزًا لانحراف البشرية عن التوحيد.

لقد جاءت الرسالات السماوية كرحمة من الله للبشر، تبشّر من آمن وتنذر من كفر، وتفصل فيما اختلف فيه الناس بالحق. لم يكن البشر قادرين وحدهم على تجاوز خلافاتهم لأن الأهواء طغت والمصالح غلبت، فكان لا بد من مرجعية سماوية تقطع النزاع وتعيد العدل. وهذا ما أكده المفسرون حين بيّنوا أن الكتب السماوية نزلت لتكون حكمًا بين الناس، تحفظ الحق وتُبطل الباطل وتُقيم الحجة. ولعل حدث إرسال الأنبياء والرسل ليس مجرد واقعة دينية، بل هو حدث تاريخي مفصلي غيّر مجرى العالم، فالعالم قبل بعثتهم لم يكن كالذي صار بعدهم؛ فقبلهم كانت البشرية غارقة في ضياع فكري وروحي، متخبطة في صراعاتها وأهوائها، أما بعدهم فقد وُضعت للإنسانية معايير جديدة للعدل والحق، ونُظمت حياتهم بقوانين سماوية، وصار للإنسان معنى وغاية أسمى من مجرد البقاء.

والمثير للاهتمام أن فكرة وحدة البشرية ثم اختلافها واحتياجها للرسل لم ترد في الإسلام وحده، بل نجد صداها في الديانات الأخرى أيضًا. ففي التوراة مثلًا، يذكر سفر التكوين أن الناس كانوا شعبًا واحدًا قبل تفرّقهم في حادثة “برج بابل”، حيث انقسمت لغاتهم وتفرّقت شعوبهم، مما يعبّر عن بداية الانقسام البشري. وفي المسيحية، تُشير الأناجيل ورسائل بولس إلى أن الله أرسل أنبياءه للبشرية لتصحيح مسارها بعد أن انحرفت عن شريعة الله، وأن المسيح جاء ليعيد الناس إلى الطريق المستقيم. بل إن اليهودية والمسيحية تشتركان مع الإسلام في الإيمان بأن موسى تلقى الوحي والتوراة ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأن رسالة الأنبياء كانت دائمًا ردّ البشر إلى التوحيد والعدل. وحتى في بعض الديانات الشرقية، مثل البوذية والهندوسية، يظهر مفهوم “انحراف الناس عن الدارما أو الطريق الحق” ثم الحاجة إلى مرشد أو مخلّص يعيد التوازن للوجود، وهو ما يشير إلى إدراك إنساني عام أن الانقسام والاختلاف لا يُعالجه إلا وحي أو هداية من السماء.

إن هذه الآية لا تسرد حدثًا تاريخيًا فقط، بل تحمل رسالة متجددة: أن الأصل في الإنسان الفطرة السليمة، وأن الانقسام ليس قدرًا محتومًا بل نتيجة البعد عن الهداية. وأول اختلاف في البشرية يذكّرنا أن النجاة من الخلاف المدمر لا تكون إلا بالرجوع إلى منهج الله ووحيه الذي أنزله مع أنبيائه. فما زال البشر يختلفون، وما زال الدواء هو نفسه، كما قال القرطبي: “إنما الغاية من بعثة الأنبياء وإنزال الكتب الحكم بين الناس بالحق، وإن اختلفوا فيه بعد البيان فإنما ذلك لاتباع أهوائهم لا لقصور في الحجة.” هكذا يكشف لنا النص القرآني أن أول اختلاف في البشرية لم يكن في اللغة ولا في الثقافة ولا في المصالح، بل في العقيدة والإيمان، وأن حدث إرسال الأنبياء والرسل كان نقطة تحوّل فارقة في التاريخ الإنساني كله؛ فقد غيّر مسار الحضارات، وأرسى دعائم التشريع، وأعطى للبشرية بوصلة تستدل بها في ظلمات الاختلاف. فالعالم قبل الرسل لم يكن يعرف معنى الرسالة والحق الكامل، أما بعدهم فقد صار للإنسانية معيار ثابت لا يتبدل، وميزان للعدل لا يحابي أحدًا، ومن هنا نفهم أن القصة القديمة ما زالت تعكس واقعنا، وأن الدرس الباقي هو أن وحدة البشرية لا تقوم إلا بالرجوع إلى الحق الذي أنزله الله مع أنبيائه، وهي حقيقة أجمعت عليها الرسالات السماوية، وشهدت بها حتى تصورات الديانات غير الإبراهيمية عن ضرورة الإصلاح وإعادة التوازن كلما انحرف البشر عن الطريق.

وإذا جمعنا هذه التحولات معًا أدركنا أن بعثة الأنبياء لم تكن مجرد رسائل عابرة، بل كانت قاطرة للتغيير الحضاري العالمي. فقد شكّلت دعوة موسى الأساس لتجربة التحرر من الطغيان وبناء الشريعة، ورسالة عيسى منحت الإنسانية بُعدًا أخلاقيًا وروحيًا عميقًا زعزع حضارة مادية متغطرسة، أما بعثة محمد ﷺ فقد وضعت حجر الأساس لحضارة عالمية متكاملة جمعت بين الإيمان والعقل، وبين العبادة والعلم، وبين الدنيا والآخرة.  وإذا نظرنا إلى التاريخ نجد أن هذا الحدث لم يكن مجرد تحول روحي، بل تحوّل حضاري غيّر وجه العالم. فموسى عليه السلام لم يكن مجرد نبي لبني إسرائيل، بل كان باعثًا لحركة تحرر كبرى أخرجت قومه من عبودية فرعون إلى نور الشريعة، وبه تأسست ملامح حضارية قائمة على التوحيد والقانون الإلهي. وعيسى عليه السلام لم يكن مجرد واعظ في فلسطين، بل كانت دعوته بداية نهضة روحية هزّت الإمبراطورية الرومانية، وأعادت للإنسان مفهوم الرحمة والخلاص، حتى صار تاريخ أوروبا بعده مختلفًا عمّا كان قبله. أما محمد ﷺ فقد غيّر مجرى العرب والعالم بأسره؛ فقد وحّد قبائل متفرقة، وأقام حضارة امتدت من الأندلس إلى الصين، وأرسى مبادئ عدل وعلم نهضت بها الإنسانية قرونًا طويلة. وهكذا يتضح أن بعثة الأنبياء لم تكن حدثًا محدودًا في زمانه أو مكانه، بل منعطفًا عالميًا جعل البشرية تنتقل من فوضى الانقسام إلى وضوح الرسالة، ومن عبثية التاريخ إلى غاية ومعنى أسمى.

ومن هنا ندرك أن بعثة الأنبياء لم تكن حدثًا عابرًا في مسيرة البشر، بل كانت لحظات فاصلة غيّرت معالم العالم، وصاغت أسس الحضارة الإنسانية، وربطت الأرض بالسماء، وجعلت للتاريخ معنى يتجاوز مجرد التغيرات الزمنية إلى الهداية والغاية والرسالة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى