” الجمهور الرقمي بين الصمت والتأثير وصناعة القرار”

عمرو عادل بسيوني
حين كان التواصل مع الجماهير أبسط وأكثر هدوءًا، كان التعامل معهم يبدو مهمة يسيرة؛ فالتجاهل أو الردود المحدودة كانت كافية لتهدئة أي جدل، واختفاء أي نقاش سريعًا دون أن يترك أثرًا يُذكر ،أما اليوم، فقد قلب الإعلام الرقمي الموازين، وأعاد تشكيل العلاقة بين الجمهور والشخصيات العامة، وحوّل المتابع من متلقٍ صامت إلى طرفٍ فاعل ومؤثر في صناعة الرأي العام، وصانع للاتجاهات والمواقف. ففي زمن المنصات الرقمية، يعيش أصحاب الأضواء في عالم مفتوح لا يعرف الخصوصية، حيث يمكن لكلمة عابرة أو تصرف بسيط أن يتحول خلال دقائق إلى “ترند” يشعل النقاشات بين مؤيد يرى الشجاعة وآخر يراها تجاوزًا. وقد حدث ذلك حين عبّر أحد الشخصيات العامة بحماس عن فخره وانتمائه، ففُسّر حديثه بطرق متباينة، وتحولت النية الحسنة إلى جدل واسع ودعوات للمقاطعة. كما حدث ايضًا مع بعض الشركات التي أطلقت حملات دعائية فُهمت بشكل مختلف عن مقصدها، فتعرضت لموجات غضب رقمي أثّرت على مبيعاتها، ومؤسساتٍ أخرى تضررت بسبب مواقف أو تصريحات عفوية من موظفيها تحولت إلى قضايا رأي عام. وهنا يظهر التحول الكبير في الدور الوظيفي للجمهور الرقمي، الذي أصبح قوة لا يُستهان بها، قادرة على رفع الأسماء أو إسقاطها في لحظات، أشبه بإعصار لا يمكن التنبؤ باتجاهه ، ولا يقتصر هذا التأثير على الأفراد فحسب، بل يشمل المؤسسات التي تواجه الجماهير بمواقفها وتصرّ على آرائها رغم موجات الاعتراض، فتشهد أثر المقاطعة مباشرة على سمعتها ومكانتها.
هكذا أصبح الإعلام الرقمي سلاحًا ذا حدين؛ إمّا أن يمنح الدعم والثقة، أو يوجّه ضربة قاسية تقلب الموازين بين ليلة وضحاها. فلم يعد النجاح يُقاس بما تملك من مال أو نفوذ، بل بمدى وعيك بطبيعة الجمهور وقدرتك على التواصل معه بصدق وذكاء. فالناس اليوم لا يكتفون بالمشاهدة، بل يُحلّلون ويُقيّمون ويُحاسبون، حتى أصبحت “النية” لا تكفي إن لم تُفهم بالطريقة الصحيحة. ومن المهم أيضًا أن يدرك من لا يجيد التعامل مع هذا العالم الرقمي أن الابتعاد عنه قد يكون خيارًا أكثر حكمة واتزانًا من خوضه بأسلوبٍ متسرّع، فليس كل حضورٍ مكسب، ولا كل صمتٍ ضعف. فبعض المسافات تحفظ الاحترام أكثر من المواجهة. فما أريد توضيحه من خلال مقالي هو بأني لست مخولًا بالحكم على الجمهور أو الدفاع عن المشهور ، بل هدفي أكبر وأسمى يتجلى في لفت النظر إلى قوة الإعلام الرقمي والتي تستحق التأمل والتنبيه إلا أنها ليست للهواة بل لابد من أن يكون مستخدميها على قدر كبير من الاحترافية ، فالتعامل معه يحتاج وعيًا وإدراكًا بأن الكلمة قد تصنع مجدًا أو تشعل أزمة في لحظة واحدة ، كما أود أن أطرح سؤالًا أختم به مقالي بـ ” هل نحن مستعدون فعلاً للتعامل مع هذا الواقع الجديد بعقلانية وذكاء، أم أن الصمت الواعي أصبح الخيار الأكثر أمانًا في زمن لا يرحم زلات “الترند ”؟



